سارقان

> سأحدثك اليوم يا صديقي عن السَرِقَة في الجيش، كانت منتشرة، وطالما آذانا السرق في حياتنا العسكرية. كنا لا نأمن على شيء نضعه: بطانيات أو ملابس جيدة أو سراج يد أو صندل جيد أو نقود علموا أنك تخبئها في ديمتك أو بندقية الحراسة والذخيرة. كانوا يسرقون ما خف وزنه، ولا يهمهم إن غلا أو رخص ثمنه، المهم منفعته وقابليته للاختلاس، والسارق غالبا من وحدتك، يراقب جيدا غياب من يريد سرقته، ويعرف متى يدخل دَيمَة المسروق، ولا يُكشف إلا نادرا. أحيانا قد يسرقك من تظن أنه صديقك المقرب. أذكر مرة أن أحدهم كسر صندوق زميله، وأخذ بندقيته، وهرب، فسُجن هذا الزميل أشهرا.

عوض القيسي
عوض القيسي
سمعنا في يوم من أيام شتاء ديسمبر 91م أنهم قبضوا على جنديين سرقا من خزانة سلاح كتيبة الصاعقة الأولى، وأن السارقين مقيدان ومرميان في العراء نكالا بهما، وسمعت من بعض الزملاء وصفا لحالهما، وأن الناس تأتي لمشاهدتهم زرافات ووحدانا. شوقنا ذلك للمشاهدة؛ فمنظر كهذا في تلك الأيام يمتع العسكر، فنحن لم نكن نملك سينما ولا وتس أب ولا إنترنت ولا مكتبة أو صحفا، تلفاز فقط فيه قناة صنعاء التي كانت تعرض العصر جلسات مجلس النواب المملة. كان هذا حدثا فريدا، ليس للعسكر أن يفوتوا مشاهدته. لا تستغرب يا صديقي مما أقول، هذه حياة العسكر، شديدة!

أحببت أن أرى منظر السارقين ينكل بهما، لعلي أشفي ما بي من غل، فذهبت وأحد الزملاء إلى موقعهم في كتيبة الصاعقة الأولى. كان معسكر اللواء يربض على هضبة في منطقة يقال لها العرقوب في خولان، وموقع السرية الأولى من هذه الكتيبة على حافة هذه الهضبة، والمواقع التي على حواف المرتفعات تأتيها الرياح قوية، وهذه رياح شتاء خولان التي تخرق الأعظم.

اقتربنا من الموقع الذي يقبع فيه السارقان، كانا على الحافة في موقع للحراسة، بدا لنا رأساهما الكثان وقد حَفَرَت فيهما آلة حلاقة شكل صليب تعزيرا لهما. عرفنا من وجهيهما أنهما من المهمشين. كان الجزء الأعلى من جسديهما عاريا، تلفحه الشمس نهارا ورياح العرقوب الباردة ليلا. أُبقي لكل واحد منهما سروال عسكري طويل يستر به عورته. كان السارقان قد قُيدا بقيد حديدي ذي حلقات كبيرة، تشبه قيود القرون الوسطى، وشُدت أيديهم خلف ظهورهم بحبل نايلون شدا وثيقا، لا يستطيعان منه فكاكا.

لك أن تتخيل، يا صديقي، حال عذابهم في الليل، إذا علمت أننا نحن العسكر لا نستطيع البقاء في الخلاء عشر دقائق بملابسنا العسكرية العادية في الليالي الشديدة الزمهرير، وعندما نستلم نوبات الحراسة تسلم لنا معاطف روسية ثقيلة، وبرغم ذلك نشعر بالبرد يَقرِس وجوهنا وأكفنا، أما شمس الشتاء فإنها حارقة في المرتفعات، يشعر من يمشي تحتها بلسعها، فكيف من يبقى النهار كله؟

قربنا من السارقين، ونظرت وزميلي إليهما نظرة احتقار وتشفٍ. قلت في نفسي: "جميلة فكرة العقاب المتناوب للسراق، في الليل قر وزمهرير وفي النهار حر شديد. يستحقون أولاد الكلب، وليكونوا عبرة لغيرهم".
كان حارس مع بندقيته يقعد على مبعدة أمتار منهما. سلمنا على الحارس، وسألناه عن السارقين، فأخبرنا أنهما على هذا الحال مذ أسبوع، وأنهم في بعض الليالي يصبون عليهما الماء البارد قبل التحقيق معهما، ويتركونهما ربع ساعة؛ لتنفضهما الريح قبل إدخالهما إلى ديمة الضباط، وهما يرتجفان.

جاء أحد الجنود بمطيبتين، في كل واحدة منهما رز أبيض قليل لا يصل إلى مقدار وجبة، وأعطاهما الحارس الذي وضعهما بين أرجل السارقين، فأخذ هذان، وهما مقيدان، يجثوان على ركبهما ويحاولان الأكل مثل الكلاب! كانا ينحنيان برأسيهما على المطيبتين، ويحاولان أن يلتقطا بألسنتهما حبات الرز. كان هذا شاقا عليهما، ويأخذ وقتا طويلا لوجبة لا تزيد عن لقيمات، سيجعلها أحدهم غرفتين بيده لو كان طليقا.

كنت وصاحبي ننظر إليهما نظرات تشف وظفر، ولعل الحارس خمن ما في ضميرينا، فقال: "أمرونا عند تقديم الطعام لهما أن نقرب الصحن ثم نسحبه من تحتهما كلما اقتربا بفيهيهما، لكني أرثي لهما، وأعطيهما الطعام مباشرة. يكفيهم ما قد نالوه".
قعدنا قليلا نشاهدهما، ثم عدنا إلى كتيبتنا والناس ما زالوا يتواردون ليشاهدوا المنظر أفرادا ومثنى وثلاث. قصصنا ما شاهدناه على من لم يشهد. ظل العرض المجاني للمشاهدة لأكثر من أسبوع.

ذات يوم، جاء أحد الزملاء على الغداء وقال: "هل رأيتم ذينك السارقين في الكتيبة الأولى؟"، فجاءته ردود عدة: "نعم، ما شأنهما؟"، "هاه! أخذوهما إلى القضاء العسكري؟"، "هل اعترفوا أين خبؤوا الأسلحة المسروقة؟". فقال: "لا، قالت قيادة الكتيبة إنه قد اتضح لهم براءتهما، وأعطوا كل واحد منهما ألف ريال وإجازة لشهر؛ تعويضا لهم".

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى