المبادرة السعودية للتسوية، والاستراتيجية الإيرانية للحرب في اليمن

> أحمد عليبة

> مثّلت عشية الذكرى السادسة لاندلاع الحرب في اليمن(25 مارس 2015) مفترق طرق ما بين مشروعي الحرب والتسوية. فقد قدمت السعودية مبادرة لتسوية الأزمة اليمنية كمشروع لإنهاء الحرب، رحبت بها قوى دولية وإقليمية كما حظيت باهتمام عدد من الدول الأوروبية على هامش اجتماع لحلف الناتو في 24 مارس الجاري (2021). في المقابل، رفضت إيران والمليشيا الحوثية المبادرة في مؤشر على رغبتهم في استمرار الحرب في اليمن وفي مواجهة السعودية، وتزامن إعلان الرفض مع إطلاق سرب من الطائرات من دون طيار استهدف منشأة نفطية ومبانٍ جامعية في جازان أتبعه إطلاق صاروخ باليستى على نجران، إضافة إلى الإعلان عن امتلاك قدرات عسكرية نوعية جديدة.

وتضمن مشروع المبادرة السعودية أربعة نقاط رئيسة هي: وقف إطلاق النار الشامل في جميع أنحاء البلاد تحت إشراف الأمم المتحدة بمجرد موافقة الحوثيين على المبادرة، وتخفيف القيود على ميناء الحديدة مع تحويل إيرادات العوائد الجمركية إلى حساب مشترك في البنك المركزي بالحديدة، وفتح مطار صنعاء لعدد من الوجهات الإقليمية والدولية، وإعادة إطلاق المحادثات السياسية لإنهاء الأزمة. وفى المقابل، رد المندوب الإيراني في صنعاء حسين إيرلو على المبادرة السعودية فور إطلاقها بأربعة نقاط أيضًا قال إنه يجب أن تتضمنها المبادرة منها وقف الحرب بشكل كامل، ورفع الحصار بشكل كامل، وسحب القوات العسكرية، وإجراء حوار سياسي بين اليمنيين دون أي تدخلات خارجية على حد قوله.

دلالات عديدة
يطرح هذا التطور عددًا من المؤشرات تتعلق بالأبعاد والدلالات الخاصة بالمبادرة السعودية والرد الإيراني عليها منها:

1- طبيعة المبادرة: يمكن القول إن هناك عرض "هدنة" يشمل وقف إطلاق النار الشامل، كمقدمة لوقف الحرب لاحقًا في حال نجاحها، وهو إطار تكتيكي مفهوم كاستحقاق مرحلي، فوقف الحرب نهائيًا يتطلب استحقاقات أوسع في حال القبول بالمبادرة وإطلاق مسار جديد للتسوية. كذلك فإن تخفيف القيود على ميناء الحديدة ومطار صنعاء يتعاطى مع العناوين التي سبق وطالبت بها المليشيا الحوثية لكن وفق ضوابط، ففتح مطار صنعاء لا يعنى العودة إلى استئناف الرحلات إلى إيران أو لبنان حتى لا يُعاد فتح الأجواء أمام الأولى ووكلائها الإقليميين لتوفير مزيد من الدعم العسكري الإيراني أو عبر حزب الله للمليشيا الحوثية. كما أن عملية تقاسم العوائد الجمركية في ميناء الحديدة مؤشر على التخلي عن سياسة الفصل الاقتصادي بعد نقل البنك المركزي التابع للشرعية إلى عدن. أما وقف الحرب بشكل نهائي فسيكون في إطار اتفاقية ما بعد مسار التسوية التي يفترض أن تنتج شكلًا جديدًا للسلطة على الأرجح أقرب إلى اتفاق السلم والشراكة الذى سبق عرضه بالتزامن مع استيلاء المليشيا الحوثية على صنعاء وتم تضمينه في اتفاق المبادرة الخليجية.

ولا يعتقد أن المبادرة على هذا النحو تحقق المصالح الإيرانية- الحوثية، فعلى سبيل المثال، فإن فتح الأجواء أمام إيران ولبنان هي أولوية لدى هذا الفريق، وهو سياق واضح في الدعاية الحوثية المضادة للاتفاق التي تصر على أن لا يكون فتح الأجواء مشروطًا إلى أي جهة. كذلك وبالعودة إلى ما طرحه إيرلو في بند "الانسحاب العسكري" فقد قفز خطوة إلى الأمام باشتراط سحب السعودية دعمها العسكري للجيش اليمنى والقوات المشتركة، وهو سياق غير مفهوم، خاصة وأن الدعم العسكري الإيراني للحوثيين واضح وأصبح محل اعتراف رسمي من إيران، فمن اللافت أن وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف أشار في أعقاب لقائه المبعوث الأممي مارتن غريفيثس خلال زيارته الأولى إلى طهران (20 فبراير 2021) إلى ذلك صراحة بقوله: "لم نتلقَ أي مقترح بوقف دعم طهران للحوثيين، مقابل وقف دعم واشنطن لعمليات التحالف في اليمن"، في دلالة واضحة على أن توقف الدعم لا يرتبط فقط بالدعم السعودي للجيش الوطني وإنما أيضًا بدعم واشنطن للتحالف. ولم يتناول إيرلو في المقابل الموقف من الانسحاب الإيراني – الحوثي في ظل تأكد وجود فريق من الحرس الثوري الإيراني في اليمن، بل إن أغلب التقارير الدولية، ومنها تقارير مجموعة خبراء الأمم المتحدة في اليمن، تشير إلى وجود واسع للحرس الثوري في إدارة الحرب في اليمن والهجمات ضد الرياض وعلى جبهات متعددة في الداخل أيضًا. كذلك وفق تقارير محلية عديدة، فإن إيرلو دفع الحوثيين إلى مواصلة الحرب على جبهة مأرب كخطوة تهدف إلى تعزيز أوراقهم عند القبول بالهدنة التي ستتطلب وقف إطلاق نار شامل عند الخطوط التي رسمتها المعارك.

2- معادلة الاشتباك والفرصة الأخيرة: فرضت حرب اليمن منذ البداية حسابات وفق موازين القوى الإقليمية. وفى الفترة الأخيرة، زادت إيران من عمليات بناء مخازن صاروخية تحت الأرض، كما أجرت مناورات حملت رسائل عدائية لكافة دول المنطقة، فضلًا عن مضاعفة القدرات العسكرية النوعية لوكلائها بشكل عام والتركيز على الحوثيين بشكل خاص، لاسيما فيما يتعلق بإمدادات الصواريخ والطائرات من دون طيار، حيث كشفت المليشيا الحوثية عن حيازة طائرة "وعيد" التي يمكنها قطع مسافة أكثر من 2000 كلم وهى مسافة تزيد عن الطائرات التي كانت بحوزتها بنحو 1000 كلم تقريبًا، إضافة إلى قدرتها على حمل رؤوس متفجرة بوزن مضاعف. وتزامن هذا الإعلان عن هذه الطائرة مع رفض المليشيا للمبادرة السعودية في مؤشر آخر على الاستعداد للاستمرار في العمليات العسكرية.

وتعتبر إيران أنها كسبت جولة الحرب في اليمن بإطالة أمدها على مدار ست سنوات، ووفقًا لما قاله المرشد الأعلى على خامنئي، لا يزال هناك اتجاه للمزيد من إطالة أمدها للعام السابع. وفى واقع الأمر، فإن حسابات إيران لكسب الحرب في اليمن أو غيرها من مناطق الصراع الإقليمي تقوم على معادلة فرضتها في سياق الحرب غير المباشرة عبر وكلائها في الساحات المختلفة خارج حدودها، لكن لا يعتقد أن عكس هذا المسار قد يكون في صالح طهران، إذا ما قررت الولايات المتحدة وشركائها الدوليون والإقليميون تغيير معادلة الاشتباك الراهنة وخوض حرب مباشرة ضدها، فالكثير من التقديرات تشير إلى أن ما تعرضه المبادرة قد يكون فرصة أخيرة لإيران وعليها أن تبادر إلى خفض التصعيد داخل اليمن وفى مجالها الحيوي بعد أن أصبحت تستهدف المصالح الدولية بعرقلة الملاحة البحرية عبر عمليات الاعتداء المتكررة على السفن وعلى مواقع الإنتاج ومواني الشحن النفطي في الخليج.

3- رهانات متباينة: يُلقي الرباعي الدولي (الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا) بثقله خلف المبادرة السعودية التي طرحت، على الأرجح، بالتنسيق مع هذه المجموعة الدولية (مع ملاحظة أنها المجموعة المصغرة نفسها التي طرحها غير بيدرسون في تسوية الأزمة السورية إلى جانب فريق آستانا). كما أن تلك الدول أصدرت بيانات تحذيرية وفورية لإيران والحوثيين بمجرد إطلاق هجمات على السعودية كرد على المبادرة، حيث اعتبرت تلك المجموعة أنها تُقوِّض جهود عملية السلام في اليمن، كما أن هذه الأطراف، باستثناء ألمانيا، شاركت في مناورات مشتركة في مسارح مختلفة في الشرق الأوسط خلال الأسبوع الماضي، بالمشاركة مع السعودية، وبالتالي يمكن القول إن المبادرة السعودية هي مبادرة دولية قدمتها الرياض كاستجابة للقوى الدولية الداعية لوقف الحرب، وهو ما أكدته تلك الدول في بيانات تأييدها للمبادرة بقولها أن السعودية أكدت على رغبتها الحقيقية في إنهاء الحرب في اليمن.

ويؤكد هذا المؤشر على أن القوى الدولية والإقليمية تسعى إلى التأكد من مبادرة إيران إلى تغير سياستها الإقليمية ودعمها للوكلاء قبل العودة إلى الاتفاق النووي كشرط مسبق، وهى الخطوة التي ركز عليها مجموعة نواب الكونجرس الأمريكي الذين شددوا على ضرورة أن لا تقدم إدارة جو بايدن تنازلاً لإيران في هذا الملف. كما أن مخاطبة المبادرة للحوثيين مباشرة تمثل رهانًا على مدى إمكانية قبولهم بـ"فك الارتباط" مع طهران من جانب آخر، ومؤشرًا على ما إذا كانت المليشيا الحوثية ستنحاز إلى المشاركة في العملية السياسية على أرضية وطنية تشارك فيها باقي القوى السياسية أم أنها لا تزال تدور في الفلك الإيراني بغض النظر عن استحقاقات عملية التسوية المطلوبة. ويعتقد أن الرد على هذه النقطة تحديدًا ورد في بداية خطاب عبد الملك الحوثي زعيم المليشيا بمناسبة الذكرى السادسة للحرب، أولًا بتوجيه الشكر لإيران ولحزب الله اللبناني على دعمهما له، وثانيًا بمقارنته بين اتفاق "الطائف" الخاص بتسوية الحرب الأهلية اللبنانية والمبادرة السعودية لتسوية الأزمة اليمنية، وهو استدعاء مقصود الهدف منه أنه لا يقبل بتقاسم السلطة مع الشرعية وبرعاية سعودية وإنما الهيمنة على السلطة في اليمن وبرعاية إيرانية.

السيناريو المرحلي
في اللحظة الحالية، يمتلك كل طرف من الأطراف مشروعًا للتسوية وآخر للحرب. فإيران تريد تسوية الملف اليمنى في إطار هدف واضح وهو تمكينها من اليمن عبر تكريس سيطرة الوكيل الحوثي على السلطة، وبالتالي تتجاوز شرط اقتران العودة الأمريكية إلى الاتفاق النووي بسحب دعمها للوكلاء، وهى نقطة أخرى بلا ضمانات، فبعد اتفاق الطائف - الذى استدعاه الحوثي في خطابه الأخير- أعادت طهران بناء القدرات العسكرية لمليشيا حزب الله على مدار عقود من الزمن، ما تسبب في اختلال المعادلة السياسية في لبنان وانخراط الحزب في حروب مع إسرائيل ثم تمدده في سوريا حالياً، وبالتالي ظل هذا السلاح خارج إطار قرار الدولة، وجرى توظيفه طول الوقت في سياق حسابات إيران الإقليمية.

في أفضل السيناريوهات الممكنة، يمكن القول إن التوصل إلى "هدنة" مرحلية وليس تسوية شاملة هو الاحتمال الأكثر ترجيحًا، وستفرض هذه الهدنة، حال التوصل إليها، ملامح مشروع مستقبلي للتسوية التي ستفرزها معركة "القدرة على الإخضاع" التي يديرها الطرفان، وما يلفت الانتباه في نقطة التحول الحالية في المشهد بشكل عام أنه تتم إعادة صياغة حدود الأزمة في إطار مقاربات الحسم المعروضة: "التسوية" أم "الحرب"، فتسوية الأزمة هي مدخل لتسوية إقليمية، كما أن فشل مشروع التسوية وترجيح مسار الحسم العسكري لا يعنى أنه سيبقى في حدود التصعيد العسكري الحالي وإنما سيفتح المجال لتوسيع دائرة الحرب في المنطقة.

كذلك، فإن السيناريو الأسوأ أصبح مطروحًا على الطاولة هو الآخر، مع التلويح بخيار الحرب، وهى ورقة لم تكن مطروحة من قبل على الطاولة، حيث أجريت 10 مناورات متزامنة في المنطقة امتد مسرح عملياتها من شرق المتوسط وصولًا إلى الخليج ومرورًا إلى بحر العرب وخليج عمان، تحاكي التعامل مع سيناريو حرب جديدة في الإقليم مركزها اليمن، وقد حملت إحدى تلك المناورات التي قادتها الولايات المتحدة وبمشاركة دولية (فرنسا وكوريا الجنوبية واليابان) اسم "الحرب في بحر العرب"، وبالتالي هناك إشارة إلى أن القوى الدولية تستعد لكافة السيناريوهات في المستقبل، ومن بينها سيناريو الحرب.

وبين السيناريوهين السابقين، لا تزال الفرصة قائمة، فعلى الرغم من رفض إيران والحوثي للمبادرة السعودية، يتواصل حراك التفاوض الدولي من جانب المبعوثين الأمريكي والأممي عبر الوسيط العماني مع الحوثيين وإيران في دلالة على أن القوى الدولية لم تفقد الأمل في إمكانية تسويق المبادرة وتطويرها تحت سقف عملية التسوية المطروحة دوليًا وليس وفق الشروط الإيرانية التي طرحها المندوب الإيراني في صنعاء. لكن هذه الفرصة مقيدة في الوقت ذاته بسقف ما يمكن تقديمه من تنازلات، فقبل وصول المبعوث الأمريكي ليندر كينج إلى مسقط التقى بعدد من نواب الكونجرس، ووفقًا لتسريبات حول هذا اللقاء جرى تأكيد ضرورة التمسك بالحل الإقليمي بمعنى أن صفقة التسوية الخاصة باليمن يمكن أن تكون مدخلًا لتسوية إقليمية مع إيران يمكن تعميمها على باقي الملفات الأخرى (سوريا والعراق ولبنان).

في الأخير، وفى ضوء تجربة الحرب في اليمن بشكل عام، لا يزال هناك طريق طويل أمام الوصول إلى مشروع عملية التسوية وإنهاء الحرب في اليمن، فنقطة التحول التي يمكن أن تغير معادلات الوضع الحالي ليست هي النقطة التي يلتقي عندها مفترق الطرق بين مشروعي الحرب والتسوية، وإنما المفترق الحقيقي سيكون في استحقاقات الصفقة التي ستتقبلها الأطراف ويتم تضمينها في اتفاق التسوية وهى مرحلة لا تزال أبعد مما هو متصور، وقبل الوصول إليها قد يجرى اختبار لمرحلة "هدنة" لتقييم نتائج معركة "القدرة على الإخضاع" بين أطراف الصراع والتسوية.

*مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية والسياسية

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى