العمالة اليومية في زمن "كورونا".. تفاصيل من المعاناة والبؤس

> تقرير رشيد سيف:

>
  • يجازف بحياته من أجل 7 دولارات ويقضي يومه بـ "نفر عصيد" ..
يتخذ المئات من العاملين بالدخل اليومي المحدود الأرصفة بأكثر من مديرية في مدينة عدن "جنوب اليمن"، مقرا للبحث عن عمل في البناء والسباكة والحفريات وغيرها من الأعمال الشاقة؛ بغية تحسين أوضاعهم المعيشية اليومية.

ويعد الرصيف مأوى للعديد منهم، ومتنفس لتبادل همومهم ومشاكلهم المادية والنفسية رغم قسوة الصيف هذا العام، حتى أن تلك الشوارع اكتسبت شهرة المسمى "الحراج" والبؤس في آن، والاسم هنا يحمل دلالات مأساوية يتكبدها هؤلاء العمال منذ ساعات الصباح الأولى حتى المساء طيلة سنوات مخلوطة بالحزن والفرح، بالحرب والسلام، بالصحة والمرض، إلى جانب مخاطر العمل بالأدوات القديمة كالسلالم الخشبية والحبال غير الآمنة وغيرها.

ويجازف عمال اليومية بحياتهم مقابل سبعة آلاف ريال يمني، أي ما يعادل نحو 7 دولارات باليوم الواحد بصرف مركزي عدن، وهو أمر يراه العامل أهون بكثير من الجلوس شاردا دون عمل أو اقتراض مبلغ يعادله كصرفة يومية من أحد المعارف لديه، إذ يمضي العامل في سبيل إنجاز عمله دون كلل أو تكاسل متسلحا بالمثل الشعبي "اشقى بالألف الريال ولا تتسلفه".

وكان الشاب يونس (28 عاما)، أب لثلاث فتيات، قد لقى حتفه قبل 3 سنوات. يقول أحد أقاربه لـ "الشارع" إنه فارق الحياة إثر سقوط حجر (طوب) من الدور الخامس على رأسه في صنعاء بينما كان يعمل في خلط مادة الإسمنت.
لم يكن يونس إلا واحدا من عشرات العمال الذين يواجهون المخاطر بشكل يومي، إذ تتراوح فترات العمل الزمنية من 12 إلى 14 ساعة يوميا، ويواصل بعض العمال العمل ليلا بسبب اعتدال الجو نسبيا عن الظهيرة اللافحة.

وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن 24.3 مليون شخص في عام 2020 كانوا معرضين لخطر الجوع والمرض، ومنهم قرابة 14.4 مليون شخص بحاجة ماسة إلى المساعدة، ويرزح الأغلبية الساحقة منهم تحت وطأة الجوع والفقر الذي يزداد سوءً، كما أنه أثر على نصف إجمالي سكان اليمن البالغ عددهم حوالي 29 مليون نسمة.

ويوجه عمال اليومية ضغوطا أسرية كبيرة، تنعكس سلبا على حالتهم النفسية. وتشير التقديرات إلى أن أكثر من 40 % من الأسر اليمنية تجد صعوبة في شراء أدنى مقومات الحياة كالغذاء والدواء، حسب تقرير صادر عن البنك الدولي وجمعية الأمم المتحدة ومنظمات عدة.

أحوال تتشابه ما قبل "كورونا" وفي ظلها
في زمن "الكوفيد -19" غابت الخيارات أمام العمال على الرصيف، كما غابت معها أماني الغد المحمود في بلد أنهكته الحرب منذ سبع سنوات، دُمرت خلالها البنية التحتية والنظام الصحي وتصدرت الأزمات الواجهة أبرزها أزمة كورونا، بينما ذكرت تقارير الأمم المتحدة أن 19.9 مليون شخص بدون رعاية صحية كافية.

ولم يترك الحظ للعمال بارقة أمل، غير تلك المعاول المتآكلة والمجارف في سلال البلاستيك، على بعد مترين أو أقل من كل واحد منهم.
وبتعدد المخاطر، تتزايد أحوال عمال اليومية سوءً، خاصة مع استمرار تفشي الأوبئة بالمدينة مثل "المكرفس والضنك والملاريا وكوفيد-19″، غير أن هذا الأخير، أثرت تداعياته مباشرة على حياة اليمنيين كلهم، وفيهم العمال ذوو الدخل المحدود.

ومع غياب الحقيقة وتضارب المعلومات وتضليلها، لم يلتزم كثير من العمال بالإجراءات الوقائية، وظلوا يعملون، فيما بعضهم التزم نسبيا بتحذيرات وزارة الصحة والمنظمات، كعدم الاختلاط أو التجمعات حرصا وخوفا على حياته وأولاده من الإصابة بالفيروس.
يقول إسماعيل، وهو يستظل تحت شجرة على رصيف شارع التسعين بمدينة عدن لـ "الشارع" إن "الفارق الذي يمكن أن يحدثه كورونا لا يهمني، فبعض الأيام تمضي بوجبة واحدة، نأكل نفر "عصيد" الظهر، وعليها لليوم الثاني.

ويرى إسماعيل أن النتيجة المصيرية قد تتشابه، لكنه في الوقت ذاته، مستعد للالتزام بالإجراءات الاحترازية إن توفرت الإمكانيات.
وتشير إحصائيات سابقة، لمركز الإعلام والدراسات الاقتصادي، إلى أن مليون ونصف مليون عامل، خسروا وظائفهم في القطاع العام والخاص وغير المنظم.

وفي هذا الصدد، يقول مصطفى نصر، رئيس مركز الدراسات والإعلام الاقتصادي، إن "تأثير كورونا على الحياة الاقتصادية كان قاسيا على عمال اليومية، وتأثير كورونا على الاقتصاد اليمني كله قاس أيضا، وليس فقط على قطاع محدد، وإنما بدرجات متفاوتة من قطاع لآخر".
ويضيف، خلال حديثه لـ "الشارع"، أن "أكبر تداعيات فيروس كورونا كانت على تحويلات المغتربين، لا سيما بعد الإغلاق التام في المملكة العربية السعودية، وبعض الدول الأخرى التي شهدت إغلاقا تاما".

ويتابع: "وبالتالي تأثرت التحويلات بصورة كبيرة، وصلت إلى ما يقارب 72 % وهذا طبعا أثر بصورة مباشرة على العمالة اليومية، كون كثير من العمالة اليمنية التي تعمل بأعداد كبيرة في مجال الإنشاءات والبناء والمقاولات تعتمد بشكل كبير على تحويلات المغتربين الذين عادة ما يقومون بمشاريع بناء كالفنادق أو المنازل والمشاريع الصغيرة".

ويرى نصر أن "هذه واحدة من الإشكاليات المباشرة، التي حدثت لقطاع واسع من عمال الأجر اليومي، ناهيك عن بعض العاملين في بعض المشروعات البسيطة والمتوسطة في أثناء الإغلاق، رغم أنه لم يكن هناك إغلاق شامل في اليمن وإنما كان هناك تخوف واحترازات معينة أثرت سلبا على كثير من المشروعات الصغيرة كالمطاعم وقاعات الأعراس، وهذا أثر بشكل مباشر على العاملين في هذا القطاع".

تختلف أحوال المئات من العاملين في هذه المدينة، وغيرها من المدن اليمنية، وتتوحد همومهم الحياتية ومطالبهم وأمانيهم أيضا.
ويقول نصر لـ "الشارع"، "عندما تم إيقاف بعض الأنشطة أو المشروعات الصغيرة والمتوسطة في أغلب القطاعات في أثناء الجائحة، كثير من الأشخاص الذين يعملون سواءً بالمكافأة أم بالأجر اليومي، فقدوا أعمالهم في قطاعات البناء والخدمات بشكل عام".
ويعتقد نصر أن "كورونا لم يؤثر على القطاعات المتعلقة بالغذاء والدواء بقدر كبير".

للحرب أثرها البالغ
كان أثر الحرب بين الفرقاء اليمنيين بالغا على حياة العاملين، فقد تسببت في تسريح كثير من وظائفهم إلى جانب انقطاع صرف المرتبات لموظفي الدولة، وتدهور سوق العمل وإغلاق الشركات الكبيرة والمتوسطة، الأمر الذي دفع كثيرا من الموظفين إلى البحث عن مهن أخرى، حتى إن كانت لا تتناسب مع مستواهم التعليمي، كالعمل في المخابز والأعمال اليدوية في مهن الخرسانة والبسطات.

كان عبدالرحمن، المتكئ على حجرة مربعة بظل عمارة على الشارع العام في عدن، الوحيد الذي بدا التفاؤل على سمرته الشاحبة، لكن حديثه عن غلاء الأسعار في ظل أزمة كورونا، أنهك قواه، وخاصة في ظل انخفاض الأجور وزيادة المسؤوليات.
عبدالرحمن وأقرانه العاملين في قطاعات الأجر اليومي، يدركون أن العمالة غير المنتظمة خارجة عن أي مظلة تأمينية، فقط حياتهم تمضي بشكل يومي حسب الأعمال التي يقومون بها، ومن يوم لآخر تكثر شكاوي عبدالرحمن ومثله الملايين، من الأوضاع التي يعيشها اليمن اقتصاديا وصحيا وسياسيا وأمنيا.

يقول أحمد عبدالوهاب، وكيل قطاع الرعاية الاجتماعية في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، لـ "الشارع"، "لوحظ في الشوارع والطرقات وجود العاملين بكثرة وفي المطاعم والورش المهنية وغيرها. كل ذلك بسبب سوء الأحوال المعيشية الناجمة عن ارتفاع أسعار المواد الغذائية، وأيضا ناجمة عن تحمل مسؤولية توفير دخل الأسرة حتى تستمر الحياة، وهذه أعباء فرضتها الحياة على العاملين بالأجر اليومي".

و يواصل: "كل هذا يعد عاملا مساعدا لانتشار مخاطر فيروس كورونا، والأمراض الأخرى المعدية، التي تؤثر على حياة الإنسان ويمكن أن تؤدي به إلى الوفاة".
ويحمل عبد الوهاب "الحرب مسؤولية مصير هؤلاء العمال؛ فلولاها لما كانت نتائج كورونا قاسية لهذه الدرجة" كما يقول.

مع توسع رقعة انتشار الفيروس، وارتفاع الأرقام، سافر المئات من العمال نحو الأرياف دون الخضوع للفحص الطبي خشية الإصابة بكوفيد -19، وبعضهم ظل في المدينة يعمل خشية الجوع وما بينهم ظلت المخاوف ثابتة.
ويقول المهندس عمر القاضي مدير شركة توب سيفل للمقاولات العامة: "كان لفيروس كورونا أثر كبير على الشركة وأيضا العمال، البعض أجبره أهله على مغادرة المدينة وقليل، منهم بقي يعمل مع القلق والخوف".

ويضيف لـ "الشارع"، "بالنسبة للشركة استمر عملها، ولكن بشكل غير دائم ما قبل كورونا وما بعدها، وذلك بسبب عدم الإغلاق التام، التزمنا بالإجراءات نسبيا، ولكننا عانينا من تراجع الأعمال، وهذا بالطبع يؤثر على عمال اليومية".
حاليا، لا تتوفر أي إحصائية دقيقة بعدد عمال الأجر اليومي في اليمن، بيد أن تقديرات الاتحاد العام لنقابات العمال، تشير إلى أن عدد العمال بلغ في العام 2010 أكثر من مليوني عامل.
ينشر هذا التقرير بدعم من "JDH / JHR – صحفيون من أجل حقوق الإنسان والشؤون العالمية في كندا".

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى