في الذكرى الثالثة والستين لصدور صحيفة "الأيام".

> (أيام محمد علي)
في مفردات التكوين السياسي الحديث لعدن، تستفيد المدينة (الدولة) على خمسينيات القرن العشرين، مما كان متاحًا ليبراليا، فأصبحت فارقة حضور إنساني في الجزيرة العربية بالأحزاب والتنظيمات السياسية إن شئنا؛ وبالجمعيات والمنظمات الأهلية أيضًا. وعلى غير ما هو معهود في إرث الأحكام السلطانية السائد في المنطقة بناشئة التكوينات النقابية كرقي في الفكر والممارسة يسبق تشكيل وظهور الدول بمفهومها القانوني العصري الحديث في المنطقة.

دون إغفال نشوء وتطور الصحافة العدنية كإحدى مدامك (مدينية) عدن واستفادتها من مناخ المتاحات الليبرالية لإدارة عدن البريطانية. لنقرأ في الواجهة أن صحافة عدن بدءا من (فتاة الجزيرة) للأستاذ محمد علي لقمان الصادرة في العام ١٩٤٠م؛ كانت تبدأ من حيث وصل الأخرون في بلاط صاحبة الجلالة، والقياس على ذلك يجعلها رائدة بالقول والفعل وإن تطايرت قبلها وريقات صفراء هنا أو هناك.

ولعل هؤلاء الرواد وقد ضجت بهم فضاءات المدينة ما بين الجبل والبحر من حقات إلى التواهي يفقهون كنه العصر ويسابقون الزمن لصنع مفردات مغايرة بالنشوء والتطور والعصرنة في مجالات السياسة والصحافة و الأدب والعمل المجتمعي الحر الذي سيصبح بعد ذلك ثوريًا بكل المقاييس، وبما يشكل حرجًا في صدور حاكمي الجوار وحتى حاكمية أبناء المانش القادمين إلى عدن قبل مائة عام ونيف من ذلك الزمان.

كانت صحيفة "الأيام" الصادرة في أغسطس ١٩٥٨م بعقلية الأستاذ الكبير محمد علي باشراحيل - رحمه الله - تأخذ من كل شيء وتعطي الآخرين كل شيء، ليست تكرارًا بعبقرية صاحبها، وليست نسخًا لصوت آخر، وكانت لا تتقاطع كصحيفة مع أحد لمجرد التقاطع. هي مجبولة على صناعة بضاعتها من سوق الرواج الوطني والجماهيري، منحازة لصوت الشعب بالخبر والرأي المعبر عن هَمِّ الشارع، لذا تنتقي (هي) الحرف وتسخره بالمهنية العالية من خلال حذاقة الاستقبال (المحرر)، و براعة الإرسال (القارئ)، بعيدًا عن الوجبات الإملائية والتحريضية والايدلوجية. فكانت صفحاتها ذات العدد القليل تستوعب حدود المدينة عدن وانطلاقًا إلى جاراتها في محميات الجنوب العربي ودون أن تستثني الشمال.

لا غبار أن صحيفة "الأيام" كانت مذ توهجها الأول في ٧ أغسطس عام ١٩٥٨م، منحازة للوطني السائد في عدن والجنوب، ومغطية أفق الثورة العربية في مصر عبدالناصر ودون أن تنسى تفاعلات (الثورة) في الشمال رامية بثقلها مع الاستقلال والتحرر والثورة و الديمقراطية.

والريادة هنا؛ والحديث عن الأستاذ محمد علي باشراحيل ليست انتقائية بمحض الصدفة والاختيار؛ لكنها مران في الموهبة باتساع الزوايا في تقلبات الزمن في الإرادة والإرادة في تجليات تطويع الممكنات والمستحيلات على السواء لصالح تكوين آخر أكثر ألقًا وحضورًا ومكانة بين الناس.

ألم يقل الجواهري الكبير:

لا يولد المرء لا هرًا ولا سبعًا

ولكن عصارة تجريب وتمرين.

وفي حالة الباشراحيل الكبير الأمر نحت في الصخر، فمن حواري العيش الطفولي البسيط في التواهي تنشأ (كاريزما) صناعة الشيء من لا شيء عند أبي هشام، الموظف في (البرق) ليلمع في خدمة مواطنيه ويتبوأ سريعًا المكانة الرفيعة في المجلس البلدي إما بالتعيين أو الانتخاب، وبالصوت المزلزل الذي يؤصل مع زملائه مشاركة مدنية في الحكم تنتزع انتزاعًا من أنياب المرأة العجوز.

وعندما يجد الباشراحيل طريقًا في العمل السياسي الحزبي باختياراته الوطنية التي تجتاز أسوار عدن تكون الوجهة رابطة أبناء الجنوب - المدرسة الأم التي يترقى في صفوفها إلى مرتبة عالية، ويصبح رمانة الميزان فيها.

يذكر شيخ المناضلين الكبير عبدالله مطلق - أطال الله في عمره - وهو يشق في شبابه طريق العمل الوطني؛ لقاءات الباشراحيل بفتية وشباب الرابطة ورجالاتها معلمًا وموجهًا ومنصتا للآراء.

لكن أفق التنظيمات والأحزاب أقل ما يمكن أن يستوعب فيض الباشراحيل المتدفق في الخمسينيات الماضية وقد أجاد بعصاميته بناء نفسه بنفسه فأتقن الإنجليزية لغة العصر كتابة ونطقًا كما يفعل أبناء لندن، بدأب مثابرته على قراءة الصحف الإنجليزية وتشرب المفردة الصحفية فيها ليختط بعد ذلك أولى إصداراته صحيفة(الرقيب) باللغة الإنجليزية عام ١٩٥٥م، ثم تلتها صحيفة "الأيام" عروس صاحبة الجلالة في عدن ابتداء من أغسطس عام ١٩٥٨ م.

وعلى أبنائنا الدارسين لتاريخ الصحافة والباحثين فيها في عدن تحديدًا مراجعة مجلدات "الأيام" والتمعن في خطها الوطني ضمن اشتراطات المهنة الصحفية وشرفها، ليجدوا مادة دسمة عن التطور السياسي في تلك الفترة. ولا يعيب أن أكرر دائمًا شهادة الفنان العملاق محمد مرشد ناجي - طيب الله ثراه - عندما قال: "الأيام" قد اكتسحت شارع الصحافة العدنية دون منافس في فترة الستينيات الماضية من القرن العشرين.

وهي سنوات الجمر والنار والحديد حقًا. وحسبنا - هنا - أن نعرف كم كانت معاناة "الأيام" وصاحبها الأليق محمد علي باشراحيل من قبل الإدارة الإنجليزية أو من ذوي القربى من بعض الثوار: (وظلم ذوي القربى أشد مضاضة من وقع الحسام المهند).

لكن المعاناة الحقة كانت إيقاف صحيفة "الأيام" وأخواتها من نجيمات الصحافة العدنية بأمر من حكام عدن (الوطنيين) بعيد الاستقلال الوطني في ٣٠ نوفمبر ١٩٦٧ م ولمدة أسبوع - كما قالوا - ريثما يرتب الحكام الجدد أمر الصحافة في دولة الاستقلال، ليستمر الإغلاق ثلاثا وعشرين سنة!

ثم يعاود جيل جديد من ذات الدار إصدار "الأيام" في نسختها الثانية بدءا من العام ١٩٩٠ م وهذا له فصل آخر وحكاية قد تطول.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى