خيارات دول الخليج العربي في ضوء الانسحاب الأميركي من أفغانستان

> د. عبدالخالق عبدالله

> بعد 20 سنة من المعارك اليومية والاستثمار الضخم في الجيش الأفغاني، خرجت أميركا من أفغانستان منهزمة عسكريا، وسياسيا بما لا يليق بالدولة العظمى الوحيدة في العالم. وبعد 20 سنة من الكر والفر والاحتماء في كهوف تورا بورا، والتغلغل في الأحياء المدنية النائية واللجوء بين الحين والآخر لأعمال إرهابية شنيعة، عادت جماعة "طالبان" المتخلفة فكرا وسلوكا، إلى العاصمة الأفغانية كابول منتشية بانتصار يوازي انتصارها السابق على الاتحاد السوفياتي.

جاء الانسحاب الأميركي من أفغانستان متسرعا ومتخبطا وكارثيا في دلالاته على صورة وسمعة أميركا في لحظة ازداد فيها الشك والتشكيك في أهلية أميركا لقيادة العالم خلال القرن الحادي والعشرين.

واشنطن تستفيق حاليا على جدل سياسي ساخن في أروقتها ومؤسسات اتخاذ القرار فيها وبين المحللين والباحثين والسياسين من كل طيف، حول كيف خسرت أميركا أفغانستان؟ ولماذا تسرع الرئيس بايدن في سحب القوات الأميرِكية؟ وهل كان قرار الانسحاب مخططا له بشكل دقيق ومدروس أم أنه خطأ استراتيجي كارثي فادح سيدفع الرئيس الأميركي ثمنه انتخابيا إذا قرر الترشح من جديد سنة 2024؟ ثم كيف خرجت الدولة العظمى الوحيدة في العالم منهزمة أمام جحافل مليشيات "طالبان" الإرهابية القادمة من عصور الظلام؟

ستظل هذه الأسئلة عالقة لفترة طويلة قادمة، لكن السؤال الأهم بالنسبة لدول الخليج العربي التي تقع على بعد ألفين كيلومتر فقط من أفغانستان هو ما هي مترتبات الانسحاب الأميركي من أفغانستان على أمن الخليج العربي؟ وهل انسحاب أميركا من أفغانستان مجرد مقدمة لخطة طويلة المدى لانسحاب أميركي عسكري تدريجي من الخليج العربي في الشرق الأوسط؟ وما خيارات دول الخليج العربي؟

دول الخليج العربي ليست من دون خيارات وليست بعيدة من قراءة مزاج أميركي يدعو للانسحاب من الصراعات الخارجية، وليست ببعيدة عمّا يدور في كواليس العاصمة التي تتحدث أن الخليج العربي ليس منطقة حيوية كما كانت في السابق. أمام هذه الدول خيارات كثيرة، ربما كان أولها وربما أهمها خيار تطوير قدراتها الدفاعية الذاتية، ولا تكرر خطأ بناء جيش من ورق كما حدث في أفغانستان، الذي تساقط في أول مواجهة حقيقية له مع مليشيات "طالبان" من دون مساعدات أميركية. تجربة الإمارات العربية المتحدة في بناء جيش مقاتل مهمة في هذا السياق، فهي في مقدمة الدول التي تطبق عمليا بناء جيش مقاتل ورادع وقادر على الدفاع عن مكتسبات الوطن، وما صفقة طائرات "F-35" سوى البند الأول في هذا المشروع الدفاعي الوطني المستقبلي.

بالإضافة إلى تطوير القدرات الدفاعية الذاتية من المهم لدول الخليج العربي خلال المرحلة القادمة إعطاء أولوية خاصة لتعميق التعاون العسكري الخليجي وربط الجيوش الخليجية ببعضها ربطا عملياتيا ومؤسسيا. الجيش الخليجي الموحد أصبح ملحا أكثر من أي وقت آخر. ولا شك في أن هذا التنسيق الدفاعي الخليجي يحتاج أكثر ما يحتاج إلى قرار استراتيجي وسياسي يعزز ويسرع مسارات المصالحة ويقوي مسار التعاون الأمني الخليجي.

لكن علاوة على التنسيق الدفاعي والأمني الخليجي والارتقاء به إلى مستويات جديدة، فإن أمن الخليج ليس مسؤولية دوله فقط، بل له دائما أبعاد دولية بحكم الموقع الاستراتيجي للخليج العربي وبحكم ثروته النفطية. لقد أصبح الحضور الدولي في معادلة أمن الخليج ضرورية بعد التطورات الأخيرة في أفغانستان، وتهاون واشنطن مع الخروق الإيرانية، وأصبح أكثر إلحاحا مع تصاعد النشاط التخريبي في مضيق هرمز ومحيط بحر العرب وخليج عمان. أي غياب أميركي، مهما كان طفيفا يجب تعويضه بحضور عسكري بريطاني وفرنسي وأوروبي وأيضا آسيوي صيني وهندي وكوري جنوبي، وذلك بحكم الاتجاه شرقا. تدويل أمن الخليج هو أحد الخيارات في مرحلة خليج ما بعد أميركا.

مهما كان الأمر، فإن الانسحاب الأميركي المتسرع من أفغانستان وعودة "طالبان" بقوة إلى العاصمة الأفغانية كابول فضلا على تصاعد التهديد الإيراني، كل ذلك يشير إلى أن معادلة أمن الخليج ستكون مختلفة كثيرا خلال القرن الحادي والعشرين عما كانت عليه خلال القرن العشرين. الخليج مقبل على تحولات أمنية وعسكرية ضخمة بل الأضخم منذ 1971 عندما استلمت أميركا مسؤولية أمن الخليج وحولت الخليج العربي إلى خليج أميركي بالمعنى الاستراتيجي على مدى العقود الخمسة الماضية، وقد لا يكون كذلك خلال العقود الخمسة القادمة.

لقد انهزمت أميركا في فيتنام سابقا، واستعادت سريعا دورها القيادي العالمي، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. الآن تخرج أميركا من أفغانستان منهزمة هزيمة موجعة. كما أن مشروعها في العراق يتعثر وعلى وشك الانهيار في ظل تقدم المشروع الإيراني المذهبي. في كل حالة من هذه الحالات ارتكبت واشنطن أخطاء شنيعة في حساباتها وتقديراتها لقوتها وقوة خصومها وأعدائها. ستحافظ أميركا على ما تبقى لها من مظاهر الدولة العظمى عسكريا وسياسيا وتقنيا وماليا في مرحلة ما بعد أفغانستان، لكن المؤكد أن المزاج الشعبي الأميركي أصبح معارضا بشدة لمغامراتها الخارجية والعالم دخل مرحلة ما بعد أميركا، حيث لا تستطيع ولا ترغب واشنطن أن تدير شؤون العالم وحدها، وقد تجسد ذلك بوضوح في ما عرف بالترامبية، نسبة إلى الرئيس ترامب، وما أخذ يعرف أيضا بالبايدنية التي تنطلق جميعها من منطق أن الداخل أهم من الخارج وهو ما يتفق تماما مع المزاج الشعبي الأميركي.

من حق أميركا أن تتخذ القرار الذي يناسب مصلحتها الوطنية، لكن القرار الأميركي لا يبقى في أميركا، كما أن الخطأ الأميركي القاتل لا تدفع أميركا ثمنه، بل يدفع ثمنه أصدقاء أميركا وشركاؤها كما يحدث حاليا في أفغانستان. أخطاء أميركا كارثية وتكررت كثيرا مؤخرا، وأقرب مثال حوارها العقيم مع إيران حول الملف النووي. لذلك من الضروري لدول الخليج العربي أخذ الدروس والعِبَر من هذه الأخطاء.

لقد حان وقت تقليل الاعتماد على واشنطن في المجال الاستراتيجي. كما تحتاج الثقة في أميركا للمراجعة ولإعادة نظر عميقة وجوهرية. وحتى الارتباط القديم بأميركا الذي ناسب ظروف القرن العشرين قد لا يناسب ظروف ومعطيات ووقائع القرن الحادي والعشرين، وحتما لا يناسب ظروف بروز الخليج العربي كمركز ثقل صاعد في المنطقة العربية.

"النهار"

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى