تأملات في كمون التيارات السياسية الدعوية

> د. جاسر عبد الله الحربش

> تكثر الكتابات والحوارات في كل المجتمعات العربية عن قدرة الحراك السياسي الدعوي على الكمون، بشقيه النظري الناعم، والتنفيذي العنيف، وبأنواعه المذهبية المتعددة، وعن قدرته على الانبعاث من جديد بعد كل فشل ومن دون تجديد. فهذه التنظيمات، رغم ارتكابها أفظع المحرمات الشرعية من قتل وسبي وتشريد للآمنين، وجدت باستمرار وبسهولة مدهشة أعداداً كافية من المقاتلين لتجنيدهم في صفوفها. فما سر هذا التعاطف المتجدد مع هذه التيارات، رغم عماها التنموي والفكري والتعايشي؟ هذه الظاهرة تحتاج إلى ما هو أعمق من التحذيرات والإنذارات.

والسؤال بصيغة أخرى هو أنه وبقدر ما تكررت على المجتمعات العربية من التيارات المخاتلة سياسياً بالدين والمذاهب، إلا أن شعبيتها وجاذبية رموزها لا تختفي مع انكفائها، بل تكمن و«تتحور» مثلما تفعل الكائنات المجهرية الدقيقة.

تنظيم «الإخوان المسلمين» وتفرعاته الدعوية و«الجهادية» وتنظيمات الحوزات الشعبية وتفرعاتها الحزبية تسببت مراراً وتكراراً في تهييج الغوغاء وتخريب المنشآت والبنى التحتية والتحريض على قتل المختلف وتعطيل التنمية، لكنها ما زالت تحتفظ بالقدرة على الكمون والتحور، وببقايا من شعبيتها عند الجماهير، ولو بعد مرور عشرات العقود على فشل برامجها وانكشاف ارتباط رموزها بأجندات خارجية وإقليمية.

أليس من المستغرب أن مخططات الهدم وإعادة بناء الشرق الأوسط الجديد أو ثورات «الربيع العربي» التي تخادمت فيها التيارات الدعوية السياسية مع الغرب لم تنتج قناعات شعبية جماهيرية بفساد تلك التيارات؟ وهنا يقفز أمامنا السؤال الكبير: لماذا؟
لا شك أن الخوض عن أجوبة عن هذا السؤال تحفه الأشواك والمحاذير. ويوجد بين الإجابات كما أعتقد ما هو واضح، ولكن يوجد كذلك الكثير من المسكوت عنه حتى الآن. وألخص هنا بعض الأسباب في العناوين التالية:

أولاً: التصادم التاريخي للتيارات الدين - سياسية مع الانقلابات والحكومات العسكرية في الماضي أكسبها ميزة المصداقية والشعبية عند الجماهير التي عانت من انقلابات العسكر، وما سببته من استلاب الحريات والاختناق التنموي.
ثانياً: كون تلك التيارات المتمظهرة بالدين والمذهب غازلت الجماهير بادعاء احتكارها الشرعي للمحافظة على الأخلاق والأعراف والتقاليد ومظاهر الصلاح مع جرعات هائلة من التخويف بضياع الدين والهوية الدنيوية جراء انتشار العلمانية والليبرالية وغيرها من التهم السائبة بلا حساب ولا رقيب.

ثالثاً: استمرار الأوضاع العربية في حالة انقطاع عن التطوير والتحديث القضائي والحقوقي والعلمي والتقني مع تركيزها على تأمين الهدوء الأمني باعتباره عندها أولويات وطنية.

وفي المقابا لدينا الآن بتوفيق الله، رؤية مستقبلية بقيادة حكيمة، ونعيش في السعودية (وبعض الدول العربية) مرحلة مفاصلة حاسمة ضد تسييس الأديان والمذاهب مع تحولات تنموية متشعبة وضخمة وانفتاح حضاري تبادلي مع العالم، فبناء عليه هل لدينا خريطة طريق أو عناوين لتعامل يحصن الجماهير ضد انبعاثات جديدة محتملة لتلك التيارات القديمة والمخضرمة والخبيرة في نسف التعايش الاجتماعي وتعطيل التحديث الحقوقي والعلمي والقضائي.

والحل في نظري هو عدم ترك الورقة التي كانت وما زالت التيارات الدينية المسيسة تخاطب بها عواطف الجماهير، وأعني ورقة التخويف من ضياع الدين ومكارم الأخلاق والأعراف الاجتماعية وتراتبية المسؤوليات العائلية داخل الأسرة وتفرعاتها الاجتماعية. كذلك ينبغي تسييل أكبر جزء من طاقات شبابنا نحو إثبات الذات المنتجة المثقفة، مقدم على إبهاجهم بالحريات المكتسبة في التعامل مع المكان والزمان ومصادر الدخل والاعتماد في صناعة المستقبل المعيشي على المؤسسات الحكومية والخاصة والشركات الاستشارية.

تحت العنوان نفسه لا بد من معالجة الموروثات المأزومة التي كانت مدمجة تراثياً داخل مفاهيم الأعراف والتقاليد والتراتبيات الأسرية والاجتماعية، وتشذيبها، والتخلص من العادات السيئة.
ثمة مهمة إعلامية لم تستغل بما فيه الكفاية هي الاستفادة الذكية من كشف الملفات السرية عن تعامل رموز التيارات تلك مع مشاريع عدوانية، أذكر منها مشروع الهدم وإعادة البناء لشرق أوسط جديد الذي أشرفت عليه كوندوليزا رايس، ومشروع باراك أوباما والولي الإيراني الفقيه.
الوثائق موجودة عند الحكومات العربية بالصوت والصورة، وتنتظر من يستخدمها بالكفاءة المطلوبة.

"الشرق الأوسط"

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى