العطاس والعربية .. "دعوها فإنها مأمورة"

> كان من الانصاف الاستماع إلى السيد حيدر أبوبكر العطاس وهو يدلي بشهادة تاريخية على أحداث الجنوب من الاستقلال ١٩٦٧م إلى الوحدة ١٩٩٠م، حتى نهاية الحلقات التي تبثها قناة العربية السعودية كل جمعة، لنزن ما قاله السياسي المخضرم بميزان الحقيقة والحياد والتاريخ.
لاشك في أن العطاس -وهو آخر رئيس لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية- قد تقدم خطوتين إلى الأمام في السنة التي سبقت عام ١٣ يناير (كما أسماه الأستاذ عمر الجاوي ويقصد العام ١٩٨٦م)، فقد خرج العطاس من تكتل علي ناصر محمد، وهو المقرب إليه، إلى جناح علي عنتر.

وتشاء الأحداث الكارثية أن تضعه في الصف الأول بعد مجزرة يناير المشؤومة.
قبلها، في سني ما بعد الاستقلال، كان الشاب العطاس تكنوقراطا بمعنى الكلمة، واحتفظ بوزارة الأشغال فترة من الزمن، ولذا لن يعدو في ذكرياته عن تلك الفترة إلا أن يكون محللا لا كصانع أو مشارك في صنعها.

وأتخيل أنه في اصطفافه مع الطرف النقيض لعلي ناصر لم يكن من الصقور أيضا أو من الدافعين للحسم بالقوة، نظرا لتركيبة العطاس النفسية والاجتماعية وحتى الفكرية والسياسية، كرجل مدني إداري مثقف. دون أن يعني ذلك نقيصة في حقه بل العكس هي فضيلة أن تخرج يديك من حدث دام غير ملطخة.
لكني أتذكر شجاعة الرجل عندما ذهب إلى صنعاء الغاضبة بعد التوقيع على (وثيقة العهد والاتفاق) في الأردن، غير مبال بالعواقب، وكاد أن يستشهد بطلا على أيدي قوات صالح في نقيل (يسلح).

لا نريد هنا أن نحمل السياسي العجوز فوق قدرته، إذا أراد أن يعتذر لقناة "العربية" عن حديث "النبش" المقصود في تجربة الجنوب السياسية، وهو الضيف على الشقيقة الكبرى، الذي أراده المخرج الخفي أن يبث في هذا الوقت تحديدا. فكلاهما العطاس والعربية ينطبق عليهما القول "دعوها فإنها مأمورة"!

نتذكر جيدا ندوات علي حسن الشاطر لتوثيق تاريخ الثورة اليمنية شمالا وجنوبا، وإن كان الجنوب هو المعني أكثر. والغرض استدعاء التاريخ و إبراز وتضخيم منعطفات التجربة في الجنوب وتكسير "النصال على النصال" على حد تعبير المتنبي، بين الفرقاء الجنوبيين: قومية ثم اشتراكي والبعث والتحرير والرابطة والناصريين والسلاطين ... إلخ والتفرعات داخل كل تنظيم وتحديد الاشتراكي؛ لكي يبقى الجمر مستعرا تحت الرماد مصداقا لقول نصر بن سيار:

أرى بين الرماد و ميض جمر

ويوشك أن يكون له ضرام

فإن النار بالعودين تذكى

وإن الحرب أولها كلام

وهو ما دفعني أن أتساءل يومها: لماذا لا يفكر "إمبراطور" التوجيه المعنوي في استدعاء الطرف الملكي - الإمامي للاستماع إلى رؤيتهم للأحداث من الزاوية "المغلقة" مذ سبتمبر ١٩٦٢م؟ وسيكون الرد معروفا سواء من الشاطر حسن أم غيره: إن هذا خطا أحمر.
علما أن الملكيين أصبحوا شركاء في حكم العربية اليمنية مذ العام ١٩٧٠م بموجب الاتفاق الجمهوري - الملكي الذي رعته السعودية ومصر بعد حرب دامت ثمان سنوات. وليس بالضرورة أن يأتي آل حميد الدين للمشاركة في ندوات الشاطر وإنما من يمثلهم داخل اليمن بموجب الاتفاق المذكور.

ومن الطريف التذكير باللقاء العاطفي الذي جمع ممثل الجمهوريين الأستاذ أحمد محمد النعمان بالسيد أحمد الشامي ممثل الملكيين في جدة لتوقيع اتفاق السلام، وقد كان الرجلان رفيقي درب في الأحرار اليمنيين ووزيرين في حكومة الانقلاب الدستوري عام ١٩٤٨م، ثم نزيلين في سجون القاهر بحجة قبل أن يتصالحا مع الإمام.

يومها احتضن كل منهما الآخر وأجهشا بالبكاء ولسان السيد الشامي يردد:

وقد يجمع الله "الشقيقين" بعدما

يظنان كل الظن أن لا تلاقيا

وكان الفريق مرتجي - ممثل الجانب المصري - حاضرا فانفجر فيهما على طريقته المصرية:

"دا الحب كله، امال اتقاتلتوا على إيه يا عيال ..."

لقد وظف نظام الاحتلال ابتداء من ١٩٩٤/٧/٧م تجربة الجنوب كواحدة من وسائط استدعاء التاريخ لمزيد من التناحر الجنوبي - الجنوبي.

وأتذكر أن الحكم بعث الوجه المقبول عبدالقادر هلال ليطلع على حقيقة ما يدور في الجنوب بعد انفجار الحراك. و كان المبعوث يلتقي بالشخصيات الجنوبية لمعرفة مطالبهم، وفي إحداها استمعنا إلى ما يشبه الجلد لاثنين: أحدهما منظر إيديولوجي والآخر صحافي، وهما يجلدان التجربة التي كأنا ينظران لها سابقا، وكأن دورات الدم قد أنفرد بها الجنوب دونا عن الشمال، ناهيك عن بقية بلدان العالم الثالث.

و تساءلت ليلتها: هل هذا هو التوقيت الصحيح لهذا الاستدعاء للتاريخ الذي هو "كلمة حق يراد بها باطل" كما قال الإمام علي كرم الله وجهه.
وأين كانت أحداث أغسطس ١٩٦٨م الدموية من حديث الاستدعاء الذي تبرع به الاثنان دون حاجة أو مناسبة.

وهل نسيا عملية اغتيال الرئيس إبراهيم الحمدي الدنيئة في أكتوبر ١٩٧٧م!
الذي لا يحتاج إلى تفسير أن تستدعي قناة العربية، وهي لا تنطق عن الهوى، التاريخ الجنوبي في وقت كهذا؛ إذ يحتاج الجنوب إلى الخروج من حالة الحرب المستمرة وأسوأها حرب الخدمات والمرتبات التي إن أثارتها العربية لربما استجاب الأشقاء ومدوا إلينا أيد بيضاء تساعدنا في تجاوز ما نحن فيه.
ومع ذلك، ومع كل ما يحدث، فنحن شعب أصيل يستطيع أن يخرج من مأساته كما تخرج العنقاء الأسطورية من بين الرماد.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى