من الناتو العربي إلى مؤتمر بغداد للشراكة

> د. نيفين مسعد

> الصورة الجماعية للمشاركين في مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة تلخّص حجم التغير الحاصل في البيئة الإقليمية والدولية، فجميعنا يذكر مشروع تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي أو الناتو العربي الذى تبناه ترامب، وأراد به تكوين تكتّل يبدأ بدول الخليج الست ومصر والأردن، ثم يتسّع فيما بعد، ويكون موجّها لتحقيق هدفين أساسيين: مكافحة الإرهاب والتصدّي لإيران، علمًا أنه كثيرًا ما كان يتم دمج الهدفين معًا باعتبار إيران هي المصدر الرئيس للإرهاب في العالم، وبالتالي فإن التصدي لها يجفّف المنبع الرئيس للإرهاب. أما في الصورة الجماعية فقد وقفت أربع من دول الخليج ومصر والأردن مع إيران وتركيا تحت يافطة تتحدث عن التعاون والشراكة، ليس هذا فقط بل إن وزير خارجية إيران خالف القواعد الدبلوماسية بوقوفه في الصف الأول مع الرؤساء والملوك وليس في صف وزراء الخارجية، وعندما سئل عن تفسير هذا التصرف ردّ بعجرفة انه وقف في الموضع الذى يليق بإيران وبممثل الجمهورية الإسلامية، وهكذا نجد تغيرًا بمقدار 360 درجة في المشهد الإقليمي. كما أن حضور الرئيس الفرنسي الذى لعب دورًا مهمًا في التحضير للمؤتمر وعدم وجود الرئيس الأمريكي يعنى أن غياب الولايات المتحدة عن الصورة الجماعية للمؤتمر ما هو إلا رمز لغيابها النسبي عن صورة المستقبل في الشرق الأوسط، وهذا موضوع آخر، ففرنسا ليست بديلًا مساويًا للولايات المتحدة، كما أن هناك غائبين عن الصورة، لكنهم يتحركون بكل همة في الساحة الإقليمية والدولية: روسيا والصين. إذن تعثر مشروع الناتو العربي في تكوين جبهة ضد إيران لأسباب، أهمها أن الدول العربية لها مواقف مختلفة من إيران، فسلطنة عمان والكويت غير السعودية، وقطر ليست الإمارات، ومصر والأردن لهما تقديراتهما الخاصة لموقفيهما من إيران، لكن السؤال الذى يطرح نفسه الآن هو: هل يعنى ذلك أن يكون مؤتمر بغداد إطارًا للتعاون والشراكة بين الدول العربية وإيران؟ هذا يتوقف أولًا على بلورة رؤية عربية بها حد أدنى من التوافق حول كيفية التعامل مع إيران، فإيران شئنا أم أبينا هي دولة مجاورة بكل ما يوّلده الجوار من روابط متشابكة، لكن علاقة الجيرة هذه كثيرًا ما استُخدِمت من دول عربية ضد أخرى، فوقفت سوريا مع إيران ضد العراق في الحرب العراقية - الإيرانية، وامتد الاستقطاب إلى داخل الدولة الواحدة فإذا بنا نجد في لبنان والعراق واليمن معسكرًا تابعًا لإيران ومعسكرًا آخر مناوئًا لها، وهذه التناقضات استفادت منها إيران واستطاعت من خلالها أن تتمركز في أكثر من ساحة عربية، لأن التدخل الخارجي يحتاج إلى بيئة تساعده. وبالتالي فالمطلوب تطبيع العلاقات مع إيران كدولة جارة سياسيًا واقتصاديًا وسياحيًا وفي أمن الحدود والممرات المائية... إلخ، كما هي كل العلاقات بين الدول المتجاورة، لكن أن نوفّر لإيران ظروف التمدد في بلداننا العربية ثم نشكو بعد ذلك من المشروع الإقليمي الإيراني فهذه ازدواجية لا تستقيم. هذا عن مسئولية الدول العربية، لكن هناك مسئولية أخرى كبيرة على إيران.

أتفهم تمامًا أن هناك ما ينعش الطموحات الإقليمية الإيرانية ويلعب برؤوس مسؤولي الجمهورية الإسلامية، وقد صارت تجمعهم جميعًا عباءة التيار المحافظ. فهناك الخيبة الأمريكية في أفغانستان والانسحاب الأمريكي الوشيك من العراق، وفشل سياسة العقوبات الاقتصادية في ردع البرنامج النووي الإيراني. هناك ضربة بضربة بين إيران وإسرائيل في المياه الدولية وفي عدة ساحات عربية، ولاشك أن عملية هروب الأسرى الفلسطينيين الموفقة تخطيطًا وتنفيذًا ستجيّرها إيران لمصلحتها باعتبارها داعمة لفصائل المقاومة الفلسطينية. هناك أيضًا إعادة تموضع قوى كبرى قريبة من إيران في مواقع متقدمة داخل النظام الدولي. باختصار يوجد ما يدعو لتضخّم الأنا الفارسية الجاهزة للتضخم أصلًا، لكن من المهم أن تدرك إيران حدود قوتها وأن الطريق ليس مفروشًا أمامها بالورد. نعم هي صمدت طويلًا أمام العقوبات الاقتصادية لكن بثمن باهظ لا يمكن تحمّله إلى الأبد، ولنتذكّر أن العامل الاقتصادي هو الذى أدى إلى تفكك الاتحاد السوفيتي، فما بالنا بقوة إقليمية تجتاحها المظاهرات احتجاجًا على نقص المياه؟ ونعم تتمتع إيران بدبلوماسية ذكية تجعلها قادرة على الاحتفاظ بجسور للتواصل مع الأضداد كما في أفغانستان، لكن تربة هذه المنطقة مازالت حُبلى بتطورات غير معلومة ستحتاج من إيران اهتمامًا أكبر في المستقبل، وهذا يلزمه تأمين حدودها مع الدول العربية. ثم هناك مسألة النفوذ في عدة دول عربية، وهذه حقيقة لكنها ليست مطلقة، فإيران تواجه منافسين كثر في سوريا وتململًا مكتومًا من القيادة السورية، كما أن العراق تغيّر ويرفض وضع كل البيض في السلة الإيرانية، فإن رفضت إيران الاعتراف بهذا التطور فينبغي لها أن تراجع نفسها. وكمثال فإنه عقب التصريح المنسوب للمتحدث باسم الحكومة الإيرانية على هامش قمة بغداد عن أن التضحيات التي قدّمتها إيران والمقاومة مكّنت الرئيس الفرنسي ماكرون من التجوّل في مدينة الموصل العراقية، اجتاحت الشارع العراقي حالة من الغضب لأن التصريح يحتكر لإيران إنجاز تحرير الموصل. وعلى الفور تم نشر إحصائية رسمية تكشف عن أنه بينما سقط من إيران 43 شخصًا في الحرب على داعش من 2014 حتى 2017، فإن الجيش والقوات الأمنية سقط منهم 26 ألفًا، ومن الحشد 8 آلاف، ومن البشمركة 1837. وفيما بعد اضطرت الخارجية الإيرانية لتكذيب التصريح وتصحيحه على النحو التالي: رئيس فرنسا يستطيع السير في شوارع الموصل اليوم ويعود ذلك لتضحيات الشباب العراقي والجماعات الشيعية المناهضة لإرهاب داعش وغيرها من الجماعات التي وقفت ضد التطرف والعنف في العراق. وهذا التصحيح فيه نَفَس طائفي بغيض لكنه يمثّل تراجعًا أمام الحقائق التي تنطق بها الأرقام المعلنة. الخلاصة، لم يتحقق مشروع الناتو العربي، وهناك الآن فرصة للتعاون والشراكة العربية-الإقليمية من المهم التقاطها، فلقد نالت المنطقة لعقود نصيبها من الصراعات والحروب وأكثر.

"الأهرام"

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى