يوم من أيام هشام

> يستطيع هشام أن يستيقظ مبكرا قبل أي من موظفيه، يصل إلى مكتبه بعد أن يمرر يده على الأدراج والرفوف ليقيس إتقان عامل التنظيف من عدمه الذي يكون قد سبقه في فتح المكتب.
في زحمة العمل لا ينسى أن يرفع سماعة الهاتف ليستعجل أحد أصدقائه لمشاركته إفطارا عدنيا خاصا هو (مطفاية سمك) من بحر صيرة بالفلفل الحار والثوم. قد لا تؤكل مثل هذه الوجبة بموصفاتها تلك في مكان آخر في العالم إلا في عدن.

ولا يستطيع الصديق الضيف إلا أن يلبي الدعوة، حتى إن كان من هواة النوم الصباحي؛ لأن المضيف هشاما لن يدعه يهنأ في منامه حتى يراه واقفا أمامه. وكانت طقوس الشاي الثقيل بالحليب قبل وبعد الإفطار، تحتل جزءا مهما من أجندة الصباح عنده، لا يمكن أن يكتفي الضيف الصديق بكوب واحد قبل أن يطلب له الثاني وربما الثالث أيضا مع همهمات تشجيعية منه لمجاراته في ما يحب أن يفعل.

كان مكتبه صباحا خلية نحل بين غاد و سارح، موظفين وعاملين ومحررين وزائرين و أصحاب حاجات من الذين تغلق في وجوههم أبواب المسؤولين.
يأخذ ملف أحدهم، و يقرأ في الأوراق، ثم يهب واقفا طالبا مني مرافقته وسط دهشة صاحب الملف الذي يتبعنا صامتا إلى مكتب محافظ عدن، ويومها كان المحافظ الأخ العزيز د. يحيى الشعيبي.

نجد أمامنا وجها لوجه مدير الأشغال العامة يتبختر بطوله الفاره وهو خارج من مكتب المحافظ. لا يتركه هشام أو حتى يرد على مجاملاته، ويشرع بمهاجمته بقوة الحق التي يمتلكها ملوحا في وجهه بملف المواطن الغلبان الذي انزوى في طرف غرفة السكرتارية، حيث تتصدرها الأخت عذراء المدراسي، وعندما يبدأ المسؤول يرعد ويزبد ويهدد يلتفت هشام إلى الأخت عذراء قائلا لها: اعذريني يا ابنتي عذراء على ما سأقوله لهذا في وجودك! ويقول ما يشاء له القول أن يقول دون وجل أو خوف.

عندما فارقنا صاحب الملف فرحا، وهو يحمل توجيهات الشعيبي، على ملفه كان لا بد لي من أن أسأل هشاما عن صاحب الملف، فيجيبني إنه نسي حتى أن يتعرف على اسمه .
لقد حمل هشام قضية الرجل مقتنعا بحقه وصدقه، ولم يسأله حتى عن اسمه.

كنا نكن للدكتور الشعيبي الاحترام والتقدير لقربه من الناس في عدن والتخفيف قدر استطاعته من معاناتهم ولكننا كنا نعرف جيدا أن الرجل مقيد الحركة ومحكوم بخطوط حمراء لا يمكن أن يتجاوزها خاصة ما يتعلق بالأراضي أو الأمن.
سمة هشام احترام الوقت والانضباط في العمل، فعندما وقف أمامه شاب من عدن طالبا التوظيف في الصحيفة طلب منه أن يحضر في اليوم التالي في السابعة ومعه الأوراق المطلوبة متعمدا أن يكون الموعد باكرا، فجاء طالب الحاجة في اليوم التالي متأخرا ساعتين! وهذا كفيل بأن يصرف هشام النظر عن طلبه.

في صباح حار ذهبنا بسيارته إلى ميدان الحبيشي حيث يتجمع لفيف من مناضلي الثورة في أحد أعيادها لنقلهم إلى معاشيق، حيث سيلتقي بهم الرئيس السابق. كانت الإجراءات لا تخلو من عنجهية وغضب في وجوه المناضلين الجنوبيين، وقد بدا عليهم التعب. وكان عليهم الانتظار في طوابير طويلة لنقلهم في حافلات سعة ثلاثين راكبا، بينما تأتي باصات صغيرة من نوع المرسيدس لتقل اثنين أو ثلاثة من ثوار سبتمبر في كل باص، مما أثار هشام فتوجه إلى أفراد الأمن المكلفين بذلك ليتشاجر معهم، ولم يجد بدا في الأخير إلا أن ينسحب وأنا بمعيته يرافقنا أيضا الأخ أحمد القاضي.

كان جبروت هشام يصيب أزلام النظام بالخوف لسبب واحد: إنه مع المواطنين دائما ويحمل على كاهله قضية عادلة.
وحتى في سجنه في البحث الجنائي بعدن بعد اقتحام دار (الأيام) كان التوتر والقلق باد على ساجنيه، بمن فيهم المسؤول الأول عن البحث الجنائي. فهو قوي بإرادة الحق و هم أقوياء بإرادة البنادق وشتان ما بين الإرادتين.

رحم الله أبا باشا هشام محمد علي باشراحيل .

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى