وترجّل أبو فارس اليراع

> كان خبر رحيل أبي وأستاذي نجيب يابلي صادماً لي كما هو بالنسبة لكثيرين، ورغم علمنا بمرضه وسفره للعلاج، ولكن كان لدي ما يشبه اليقين بأن الرجل كما خبرته بصلابة مواقفه في مواجهة الشّدائد سيقهر مرضه ويعود إلينا معافى، رغم كبر سنه، ولكن القدر قد سطر أفول القلم الذي صال وجال بيننا وفي ساحتنا طويلاً، وترك رحيله الصّادم في نفسي ذلك الشرخ الغائر الذي يتركه رحيل الكبار والعمالقة من غير أهلك وذويك، ولكن يكون لهؤلاء حيزا متميزا في نفسك وبين جدران ذاكرتك، لأنهم يقولون لك بصوتٍ عال مجلجل يملأ فضاءاتك: ها أنا ذا هنا، وبصماتهم وأفعالهم من تصرخ بذلك الصوت بإلحاح في أذنك.

رحل ملك اليراع وربانه الأستاذ نجيب يابلي رحمه الله وطيب ثراه، رحل القلم الذي اعتجن بتراب وغبار عدن ورطوبة أجوائها، رحل القلم الذي طاف وجال في أزقة عدن وحواريها يحدثنا عن نخبتها وروادها وخيرة رجالها، ومنقباً في فسيفساء نسيجها البشري الخليط من أجناس الأرض وشعوبها لينتقي لنا دُرر وكينونة وأصالة عدن وألقها، فقد امتزجت كينونة المرحوم اليابلي وشخصيته بالعبق الذي تفرزه الفيحاء ( الشيخ عثمان ) كحضن دافئ لكل البشر من كل مناطق البلاد، ومنها تشكّلت صلابة مواقفه التي لا تميل الى المساومة عند اتخاذ القرار، وكرجل (شيخي) يأبى الانحناء للآخر لمجرد أنه ذو باعٍ وسلطة ، فأنه رجل صاحب حق ولن ينحني أو يساوم مطلقاً، وهكذا خبرناه دائما وأبداً.

العملاق المرحوم أبو جهاد، لم يسبق لي أن التقيته أو تحدثت معه شخصيا إلا مرة واحدة في تاكسي ونحن متجهين من كريتر إلى الشيخ عثمان، ظهر ذلك اليوم كنت جددت جواز سفري في الهجرة، وعندما اقتربت من التاكسي كان هو في مقدمته، وكان يرتدي صديري رمادي فاتح كالذي يرتديه إعلاميي الفضائيات، فأطبقت على يمناه أقبلها وأسلم عليه وأحطتُ برأسه أطبع قبلة على هامته، وخلال ذلك قلت له: ولدك وتلميذك علي ثابت القضيبي، صاح متلهفا: القضيبي الخيسة الخيسة، وألحق ذلك بالسرد التاريخي الذي يعشقه: الخيسة بيت النيقاء والبسم وعلي سالم بهادي الرشيدة ومحمود زيد علي والبيلول أهلا بامبريقة وأهلها الكرام حبيبي يا ولدي.

تحدثنا طوال رحلتنا، وخلالها قال لي فيما يشبه التحذير: انت يجب ان تحاسب قليلا، البلاد مليانة ذئاب قذرة مسعورة، وقلت في داخلي، من المفروض أن يحاسب أنا أو هو الذي يصارع كبار الفراعنة والأفاكين، ولكني كتمتها، فقد كنت أهابه وأوقره كثيرا، وأضاف: في مقابلتك مع عمر باشراحيل في 14 أكتوبر حفّرت له حِفّار عُقّار (نوع من سرطانات البحر يدفن نفسه في الرمل) وخرّجت الذي لم نكن نعرفه عنه، لكن ليش توقفت من أكتوبر؟ فقلت له لم تعد فيها وحوه مثل المرحوم محمد حسين محمد وعبد القوي الأشول وعبد الرؤف هزاع ونادرة عبدالقدوس وعزيز الثعالبي وسلوى صنعاني وغيرهم، وافق على كلامي بهزة من رأسه.

سيبقى المرحوم اليابلي الجزء والكلمة والقلم الذي ستظل عدن تفتقده على الدوام، وسيبقى الصورة الحية التي ظلت تطالعنا في كل الإصدارات، والصوت الذي يصدح مجلجلا يملأ الفضاءات بطروحاته ورؤاه، فقد رسم لنفسه ملمحا وبصمة غائرة في الوجدان العدني والجنوبي واليمني عموما، وهي بصمة المدافع والذائد عن الحق دائما وأبدا، بصمة فارس الكلمة والرجل الذي لا ينحني للباطل مطلقاً، فهو مخزون ذاكرتنا العدنية ورجل عدن المتجذر فيها والمتفرد بعدنيته التي لا تضاهى.

نم قرير العين أبي وأستاذي ونبراسي أبا جهاد وتغمدك الله بواسع رحمته ومغفرته وأسكنك فسيح جنانه، وتعازيي الحارة لأستاذي ومعلمي في الإعدادية الأستاذ فيصل يابلي وللولد جهاد وكل الأسرة الكريمة، وعظم الله أجركم وصبركم.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى