​قصص من التاريخ

> قصة محمد الصغير

الحلقة الثالثة

قال: نعم يا بني؛ هذا هو السر الذي سأفضي به إليك. نعم، نحن؛ نحن أصحاب هذه البلاد، نحن بنينا هذه القصور التي كانت لنا فصارت لعدونا، نحن رفعنا هذه المآذن التي كان يرن فيها صوت المؤذن فصار يُقرع فيها الناقوس، نحن أنشأنا هذه المساجد التي كان يقوم فيها المسلمون صفاً بين يدي الله، وأمامهم الأئمة يتلون في المحاريب كلام الله، فصارت كنائس يقوم فيها القسوس والرهبان، يرتلون فيها الإنجيل ... نعم يا بني؛ نحن العرب المسلمين، لنا في كل بقعة من بقاع إسبانيا أثر، وتحت كل شبر منها رفات جد من أجدادنا أو شهيد من شهدائنا. نعم؛ نحن بنينا هذه

المدن، نحن أنشأنا هذه الجسور، نحن مهدنا هذه الطرق، نحن شققنا هذه الترع، نحن زرعنا هذه الأشجار. ولكن منذ أربعين سنة ... أسامع أنت؟ منذ أربعين سنة خُدع الملك البائس، أبو عبد الله الصغير، آخر ملوكنا في هذه الديار، بوعود الإسبان وعهودهم، فسلمهم مفاتيح غرناطة، وأباحهم حمى أمته ومدافن أجداده، وأخذ طريقه إلى بر المغرب ليموت هناك وحيداً فريداً شريداً طريداً. وكانوا قد تعهدوا لنا بالحرية والعدل والاستقلال، فلما ملكوا خانوا عهودهم كلها، فأنشأوا ديوان التفتيش، فأدخلنا في النصرانية قسراً، وأجبرنا على ترك لغتنا إجباراً، وأخذ منا أولادنا لينشئهم على النصرانية. فذلك سر ما ترى من استخفائنا بالعبادة وحزننا على ما نرى من امتهان ديننا وتكفير أولادنا. أربعون سنة يا بني، ونحن صابرون على هذا العذاب الذي لا تحمله جلاميد الصخر، ننتظر فرج الله، لا نيأس لأن اليأس محرم في ديننا، دين القوة والصبر والجهاد. هذا هو السر يا بني فاكتمه، واعلم أن حياة أبيك معلقة بشفتيك. ولست والله أخشى الموت أو أكره لقاء الله، ولكني أحب أن أبقى حياً حتى أعلمك لغتك ودينك وأنقذك من ظلام الكفر إلى نور الإيمان، فقم الآن إلى فراشك يا بني.

صرت من بعد كلما رأيت شرف الحمراء أو مآذن غرناطة تعروني هزة عنيفة، وأحس بالشوق والحزن والبغض والحب يغمر فؤادي، وكثيراً ما ذهلت عن نفسي ساعات طويلة، فإذا تنبهت رأيتني أطوف بالحمراء وأخاطبها وأعاتبها، وأقول لها: أيتها الحمراء ... أيتها الحبيبة الهاجرة! أنسيت بُناتك وأصحابك الذين غذوك بأرواحهم ومهجهم، وسقوك دماءهم ودموعهم، فتجاهلت عهدهم وأنكرت ودهم؟! أنسيت الملوك الصيد الذين كانوا يجولون في أبهائك، ويتكئون على أساطينك، ويفيضون عليك ما شئت من المجد والجلال والأبهة والجمال؟ أولئك الأعزة الكرام الذين إن قالوا أصغت الدنيا، وإن أمروا لبى الدهر. أألِفتِ النواقيس بعد الأذان؟ أرضيت بعد الأئمة بالرهبان؟!

ثم أخاف أن يسمعني بعض جواسيس الديوان فأسرع الكرة إلى الدار لأحفظ درس العربية الذي كان يلقيه عليّ أبي، وكأني أراه الآن يأمرني أن أكتب له الحرف الأعجمي، فيكتب لي حذاءه الحرف العربي ويقول لي: هذه حروفنا. ويعلمني النطق بها ورسمها، ثم يلقي عليّ درس الدين، ويعلمني الوضوء والصلاة لأقوم وراءه نُصلي خفية في هذه الغرفة الرهيبة. التتمة غدا..

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى