​قصص من التاريخ

> آخر أبطال غرناطة

الحلقة الثانية

وعلت غرناطة فترة الجزع من خوفها على موسى. لقد جعلته قائدها، وسلمته الدفة ليقود السفينة الهائمة على وجهها وسط الأعاصير والزوابع إلى الشاطئ الآمن، فإذا عجز موسى عن نجاتها لم يُنجها أحد من بعده. وقد كان موسى آخر خيط من خيوط الرجاء، وآخر شعاعة من هذه الشمس التي سطعت فملأت الأرض نوراً وهدى ثم أدركها المغيب، فإذا انقطع هذا الخيط عمَّ ظلام اليأس وانتشر. وقد كان موسى آخر مقطع من هذا النشيد الذي ألف مطلعه طارق، ثم توالى على نظمه «شعراء» البطولة: عبد الرحمن وعبد الرحمن وعبد الرحمن، الغافقي والداخل والناصر، فحمله الأبطال المساعير إلى الأقاصي والأداني، وتجاوبت بأصدائه سهول فرنسا وبطاح إيطاليا، ثم ضعف وتخافت ولم يبق منه إلا هذا المقطع، فإذا انقضى جف النشيد على الشفاه وانقطع ومات.

وقد كان موسى آخرَ سطر في سفر الحق والبطولة والمجد، ذلك الذي كتبه العرب المسلمون في ثمانمئة سنة، فمحاه الإسبان في سنوات، ولم يبق إلا هذا السطر، فإذا طُمس ذهب السفر وباد. وقد كان موسى آخر نفَس من أنفاس الحياة في الأندلس المسلمة، فإذا وقف هذا النفَس الواحد وسكن هذا الذماء الباقي صارت الأندلس المسلمة أثراً بعد عين، وصارت ذكرى عزيزة في نفس كل مسلم وأمانة في عنقه إلى يوم القيامة.

وانطلقت من أعالي الأسوار أن: "لقد عاد موسى"، فتقاذفتها الألسن وتناقلتها الآذان، فطارت في أرجاء المدينة وسارت في جوانبها مسير البرق، فبلغت الساحات والدروب، وولجت الدور والمنازل، وأوغلت خلال البيوت والسراديب، فلم تلبث أن نفضتها نفضاً فألقت بأهليها إلى الأزقة والشوارع، فإذا هي ممتلئة بالناس من كل جنس وسن ومنزلة، وإذا هي تزخر بهذا النهر الإنساني الذي يجري صوب الأسوار صخّاباً جيّاشاً مُزبداً، يتحدر ويسرع مجنوناً كأنما تدفعه قوة خفية هائلة احتوتها الكلمات السحرية «المكهربة» الثلاث: "لقد عاد موسى"!

لقد كان يوماً من الأيام الغر التي تضيء الطريق لمن يسلك فجاج التاريخ، وتجيء في الليالي كالعبقري في الناس، وتصنع العجائب لتكون معجزة في الزمان، ما شهدت مثله غرناطة، ولا أبصرت منه (إلا قليلاً) عين الوجود! إنه يوم أضاع فيه الناس غريزة المحافظة على الذات في غمار غريزة النوع، ونسوا نفوسهم ليذكروا الدين والوطن، وانبتّوا من الحاضر المقيت ليعيشوا في الماضي الفخم؛ فماج في سوح غرناطة بحر من الأجسام البشرية حمل أصحابُها أرواحَهم على أكفّهم، وقدّموا بين أيديهم دماءهم التي غضب فيها ميراث ثمانية قرون كلها مجد وعز، ونفوسَهم التي عصفت فيها ذكريات ألف معركة منصورة، فمشت في الأعصاب النار، واستعد كتّاب التاريخ ليكتبوا أعجب موقف للشعب إذا هبّ.

ووصل موسى، ذلك البطل البدري الذي أخطأ طريقه في الزمان فلم يأتِ في سنوات الهجرة الأولى، بل جاء في الأواخر من القرن التاسع، ولم يطلع في الحجاز التي كانت تبتدئ تاريخها المجيد، بل في الأندلس التي كانت تختم تاريخها.

وكانت تعلوه كآبة، فأنصت الشعب واحترم كآبة هذا الرجل الذي لو سبق به الدهر لصنع يرموكاً أخرى أو قادسية ثانية، ولكن الله الذي فتح تاريخنا في الأندلس بموسى، قد ختمه الآن بموسى! .. التتمة غدا

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى