​قصص من التاريخ

> الحلقة الثالثة والأخيرة

ونظر موسى حوله، فإذا حوله شيوخ قد أراق الكرم على شيباتهم بهاءه ونوره، وأطفال كالزهر فتحوا عيونهم على الدنيا فوجدوها غارقة في بركة من الدم، ونسوة تفتحت تفتح الأكمام عن زهراتها فرأت الطرقات مَن لم تكن الشمس تراهن صيانة وتعففاً، قد برزن يَسِرْنَ إلى المعركة ويزاحمن الرجال، ولم يكُنّ يخشين على جمالهن، فقد غطت عاطفة الجهاد على عاطفة الجنس، فكان كل رجل أخاً فيه لكل امرأة. فأحنى رأسه، ورأى الناس في عيني البطل دمعة تترقرق، وفتح فمه فحبس الناس أنفاسهم.

فإذا هو يعلن النبأ المهول، نبأ تسليم أبي عبد الله الصغير مفاتيح غرناطة!

نبأ بدا صغيراً كما تبدو المصائب، فلم يدر الناس لهول المفاجأة ما أثر هذا وما خطره، ولكن القرون الآتيات درت ما أثر هذا النبأ ولم تفرغ - إلى اليوم - من وصف فواجعه وأهواله.

ونظر موسى فإذا الصرح الذي أنفق في إقامته الدهر الأطول قد انهار في دقائق، وإذا هذه الديار التي سُقيت بدم الجدود وامتزجت برفاتهم وقامت على أيديهم يسلمها جبان مأفون للعدو المغير، وإذا السادة صاروا خَوَلاً والملوك عبيداً ... وجعل يفكر في هذه الفئة التي حوله، في أكرم زهرات غرناطة وأزكاها، هل يُجنّبها الموت الحاصد ويردها إلى حيث وجدت الراحة والدعة، أم يخلصها من حياة كلها ذل وألم ويسوقها إلى موت شريف؟
وإنه لفي تفكيره وإذا بأطفال غرناطة ينشدون ذلك النشيد الذي لا يُعرف من نظمه لهم، فيصغي الناس ويستمع الفلك الدائر:

لا تبكي يا أماه؛ إنّا ذاهبون إلى الجنة.

إن أرض غرناطة لن تضيق عن لحد طفل صغير مات في سبيل الله.
إن أزهار غرناطة لن تمنع عطرَها قبراً لم يمتع صاحبه بعطر الحياة.
إن ينابيع غرناطة لن تحرم ماءها ثرى لحد ما ارتوى صاحبه من مائها.
أنت يا أرض غرناطة أمنا الثانية، فضمينا إلى صدرك الدافئ الذي ضم آباءنا الشهداء.
لا تبكي يا أماه، بل اضحكي واحفظي لعبنا، سيأتي إخوتنا فيلعبون بها.
فذكّريهم بأننا تركناها من أجل هذا الوطن، بل في سبيل الله.
سنلتقي يا أماه! إنك لن تؤثري الحياة في ظلال الإسبان على الموت تحت الراية الحجازية، راية القرآن.
ولن تضيق عنا أرض غرناطة. ما ضاقت أرضنا بشهيد.
ولم يعد يطيق موسى أكثر من ذلك، فلكز فرسه وانطلق إلى حيث لا يدري أحد، كما جاء من حيث لم يَدرِ أحد.
وكذلك يذهب آخر أبطال الأندلس، لم يخلف له قبراً في الأرض ولا سيرة واضحة في التاريخ، بل مرّ على الدنيا كأنه حلم بهيج!
رحمة الله على موسى بن أبي الغسان، وعلى أولئك الأبطال.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى