​ثورة 26 سبتمبر.. كيف ساهم الحوثيون في بعثها من جديد ؟

> محسن فضل

>
عقود طويلة من الزمن جهل فيها اليمنيون أنفسهم وتاريخهم، وانقادوا بجهالة فاحشة لأكثر من ألف عام، بدأ ذلك منذ وصول يحيى بن قاسم الرسي إلى اليمن عام 897 م، متخذاً من مدينة صعدة اليمنية مركزاً لنشر دعوته الزيدية إلى مختلف مناطق اليمن، وقد كان ذلك الحدث بمثابة خطوة تحول قاتمة في تاريخ اليمن، حين وجد اليمنيون أنفسهم يصنعون صنمية بشرية جديدة، يجتهدون في طاعتها ، ويتقربون زلفى إلى الله من خلالها.

لم يكن حينها أبناء اليمن يعلمون أن هذه الصنمية الجديدة ومن نسلها صنميات عديدة، ستكون بمثابة الأرضة التي ستنخر جسد الوطن اليمني، وتلتهم خيراته، بل وتقاسم الإنسان اليمني مأكله ومشربه، بما في ذلك البيضة، والدجاجة، والسمن، وأبريق العسل، وقربة اللبن ، إلى درجة أن هذه  الصنميات هي من كان بوسعها تحديد نوعية الإنسان اليمني ومن أي درجة اجتماعية يكون ، بعد أن تمكنت من سلب تاريخه العظيم ، وحولته إلى عُكفي ومزين ودوشان وغيرها من المسميات التي تهدف لامتهان كرامته، وتسخيره لطاعتها.


وفي ظل ذاك العبث المشين بآدمية الإنسان اليمني من قبل تلك الصنميات المصطنعة على امتداد العصور الإمامية ، توجّب عليه أن يسعى  لإنقاذ نفسه من مستنقع العبودية ، وأن يكافح  في سبيل انجلاء عتمَة طويلة فقد فيها طريقه ، وتاه طويلاً في وسط ظلامها الدامس ،  ولهذا كان لابد أن يلوح في الأفق فجر يوم الـ 26 من سبتمبر 1962م ، الذي معه أشرقت شمس الحرية لتلامس أشعتها جباه اليمنيين التي أذعنت لأكثر من ألف عام تحت وطأة الاستعباد والاستبداد الإمامي ، وتنفس أبناء اليمن الصعداء بعد عناء طويل وشاق ، وزالت عن أعينهم غشاوة سوداء مظلمة ظلت لسنوات طويلة تحجب عنهم الضياء والنور ، واستقامت ظهور اليمنيين المعكوفة التي لطالما انحنت لأكثر من عشرة قرون في سبيل خدمة صنمية بشرية ارتضوها لأنفسهم وسخروا جهودهم وجوارحهم في سبيل نيل طاعتها وكسب رضاها.

لم يكن فجر ثورة 26 سبتمبر عام 1962م حدث عابر في تاريخ اليمن ، بل عهد جديد لولادة هوية اليمن المفقودة ، وعلامة فارقة أزاحت كثبان من التخلف والجهل والفقر والاستعباد والظلم تراكمت لمئات من السنين خلال حكم الأئمة ، ودُفنت تحت كثبانها المتراكمة تاريخ وحضارة وإنسان عُرف بتربع عرش السيادة والقيادة منذ ما قبل التاريخ.


بدء الثورة

دخلت اليمن مرحلة العهد الجمهوري ، بقيام ثورة 26 من سبتمبر - أيلول 1962م ، التي استطاعت أن تحرر الإنسان اليمني من ظلم حكم الأئمة الزيديين الذي جثم على صدور أبناء اليمن لأكثر من ألف عام  ، ووضعت اليمنيين في المسار الصحيح للحاق بالشعوب الأخرى المتقدمة ، إلا أن الثورة نفسها  ظلت مهددة بالسقوط والفشل ، حيث استمر الإماميون بقيادة الإمام الشاب محمد البدر  يخوضون صراعاً شرساً ضد الثوار الجمهوريين على مدى ثمان سنوات متواصلة ، إلى أن وصل الملكيون إلى حصار صنعاء  في نهاية شهر نوفمبر 1967م ، ولمدة سبعين يوماً ، وكادت الثورة السبتمبرية أن تُخط أحرفها الأخيرة ، تلك الملاحم البطولية التي سطّرها الثوار الجمهوريين من مختلف مناطق اليمن أثناء فترة الحصار حتى تمكنوا في نهاية الأمر من فك الحصار عن صنعاء وإعلان انتصار الثورة مجدداً ، وهزيمة الجحافل البدرية .

والحقيقة أن ثورة 26 سبتمبر بعد حصار السبعين ، لم تكن قد انتصرت الانتصار النهائي والأخير ، بل أُجبرت بعد عامين من ذلك الحدث الثوري العظيم ،  على المضي في مسار أخر لم يكن في صالحها ولم يكن في مصلحة معظم الشعب التواق للجمهورية والتحرر بمفهومه الحقيقي ، وذلك بعد إعلان المصالحة الوطنية بين الجمهوريين والملكين أو ما عرف باتفاق جدة في العام 1970م ، الذي ساعد الملكيين في إطفاء الوهج الثوري ودخلت ثورة 26 سبتمبر مرحلة الانتكاسة الوطنية والثورية ، وتحولت إلى مزيج إمامي ومشايخي ، تسرب إلى كل مفاصل الدولة ، فيما تراجع دور الثوار الجمهوريين الفاعلين الذين وجدوا أنفسهم غير قادرين على إحداث التغيير الحقيقي على أرض الواقع  ، وخَفَت صداهم الثوري ، وتشتتوا بين عواصف الانقسامات وتناقض الأفكار والتوجهات حينها ، والتي على ضوؤها تشكلت جيوب مقاومة وتكتلات سياسية رافضة لانحراف الثورة عن مسارها الفعلي ، وأخذت تدور في فلك التوجهات العالمية والإقليمية من يسار ويمين وقومية وغير ذلك .


وخلال تلك المرحلة الرتيبة التي عاشتها ثورة 26 سبتمبر ، شاءت الأقدار أن ينبلج من رحمها حركة 13 يونيو عام 1974م ، أو كما تسمى ( حركة الحمدي التصحيحية ) التي قام بها الرئيس الخالد إبراهيم الحمدي ، ووصل من خلالها إلى تولي زمام الحكم ، والتي هدفت بشكل أساسي  لكبح هيمنة المشايخ على مؤسسات الدولة والاستحواذ على المراكز القيادية في الجيش ، وإعادة الاعتبار لأهداف ثورة 26 سبتمبر ، والنظام الجمهوري ،  والعمل في سبيل تحقيق الرفاهية للشعب في مختلف المجالات ، ولا شك أن مرحلة حكم الرئيس الحمدي ، مثلت مرحلة الانتماء الحقيقي لثورة 26 سبتمبر ، وتجسّدت خلالها هوية اليمن الحقيقة ، وتشكل على إثرها الشعور الوطني الصادق في قلب كل إنسان يمني عايش تلك المرحلة الذهبية من عمر الثورة.

دفن الثورة

بعد حادثة مقتل الرئيس الخالد إبراهيم الحمدي الأليمة في 11 أكتوبر 1977م  ، دخلت اليمن بعدها في نفق مظلم ، كما دخلت ثورة 26 سبتمبر مرحلة الإخفاء القسري والتغييب المُتعمّد من قبل السلطات الحاكمة في صنعاء ، لا سيما مع وصول الرئيس الراحل علي عبدالله صالح ، إلى كرسي الحكم في منتصف شهر يوليو 1978م ، وهو الرجل الذي كان يعد منطقياً غير مؤهل كلياً لقيادة البلد ، لعدم امتلاكه القدرة والكفاءة لتولي زمام الحكم في شمال اليمن  .

ومن سوء حظ علي عبدالله صالح ، فقد تربع على كرسي الحكم  بعد فترة قصيرة من حكم الرئيس الحمدي ، الذي حقق خلال فترة وجيزة تقدر بثلاث سنوات فقط ، انجازات عظيمة في مختلف المجالات ، تمثل أبرزها في وجود دولة النظام والقانون والعدالة ، وتحسين المستوى المعيشي والاقتصادي للمواطن ، وهذا مالم يستطع تحقيقه علي عبدالله صالح خلال 30 عام من توليه السلطة ، بل على العكس من ذلك ، إذ أنه في عهد صالح زادت نسبة الفقر والبطالة في أوساط اليمنيين ،  وتدهور الوضع بشكل مخيف على مجمل الأصعدة ، وصنع من اليمنيين بشكل عام أفقر شعب على الأرض ، وجعل من الدولة اليمنية بكل ما تتملكه من مقومات فريدة أفشل دولة على مستوى العالم  .

وعلى رغم أن علي عبدالله صالح قد أتى إلى السلطة في منتصف عام 1978م ، من أوساط العامة من الشعب ، بمعنى أنه لم يأتِ من أسرة مشيخية أو من أسرة ذات ثقل عسكري ورصيد نضالي ، وهذه سمة ايجابية كان عليه أن يقتنصها لمصلحته ،  حيث كان يُحتّم عليه أن ينتصر للطبقة الكادحة التي قدم من أوساطها وهي ذاتها الطبقة التي تمثل غالبية أبناء الشعب اليمني ، لكنه لم يفعل ، ومضى نحو استمالة المشايخ وأصحاب النفوذ ، وسخر أموال الشعب لشراء الذمم والولاءات ، والأشد من ذلك أنه عمل في الحكم بعيداً عن أهداف ومبادئ ثورة الـ 26 من سبتمبر حتى كانت ذكرى الثورة ، خلال مرحلة حكم صالح الطويلة ، تمر على أبناء الشعب اليمني في كل عام ،  كمناسبة عادية تفتقر تماماً لأهميتها الوطنية ولقيمتها الثورية والشعبية ، وأصبحت مجرد ذكرى عابرة لا قيمة لها إلا لدى المواطن الموظف فقط ، الذي يتذكرها من منطلق أن هذا التاريخ يعني يوم عطلة رسمية يمكنه فيه أن ينال قسط من الراحة ليس إلا .

وممّا كان لا يخفى على جميع اليمنيين ، هو  أن ثورة الـ 26 من سبتمبر  ، لم تكن تحظى بذاك القدر الذي يليق بها خلال فترة حكم صالح الطويلة ، ولم تأخذ مكانها الحقيقي ، إذ  عَمد رأس السلطة على تجريد تلك المرحلة من معاني الثورة ، بل جرد الثورة نفسها من أهدافها وقيمها ومبادئها  ، حتى بدأ في مرحلة ما يعمل على دفن الثورة كلياً ، وذلك عندما كان الوطن يتحول تدريجياً إلى وطن الصالح ، في تقليد مماثل يشبه تماماً ما كان يسمى بالمملكة المتوكلية  .


بعث الثورة

لم يكتف الرئيس الراحل علي عبدالله صالح ، بدفن ثورة 26 سبتمبر طوال فترة حكمه الممتدة لأكثر من ثلاثين عام ، بل مضى في تجاوز حدود المنطق والعقل ، وذلك حين خطط للانتقام من ثورة شعبية سلمية أرادات الانتصاف لثورة 26 سبتمبر ، وتصحيح المسار الوطني ، والعمل بأهداف ومبادئ الثورة  ، دون إقصاء أو تهميش لأحد بما فيه صالح نفسه ، ويكون الجميع مسؤولين عن رسم هذا المسار بما يضمن العبور بسلام إلى المستقبل المنشود.

إلا أن الرئيس صالح كعادته لم يكن ذو نوايا طيبة ، إذ مضى إلى التحالف مع الحوثيين الذين خاض معهم 6 حروب متتالية ، تحت مبرر أنهم  امتداد للعهد الإمامي المتخلف ، ويسعون للتمرد والانقلاب على النظام الجمهوري وإعادة حكم الإمامة واستعباد اليمنيين من جديد .

ومع مطلع شهر سبتمبر عام 2014م  ، عمل صالح جنباً إلى جنب مع جماعة الحوثي ، وتمكنا معاً من الانقلاب على الشرعية الدستورية ، والسيطرة على  مناطق الشمال بقوة السلاح والاعتماد على القاعدة العريضة لحزب المؤتمر الشعبي العام  في تلك المناطق التي لعبت دوراً كبيراً في تمدد الحوثيين ، كما شنوا لا حقاً حرباً بربرية جديدة على الجنوب ، في الوقت الذي كان يرى صالح أن ما يقوم به يعد درساً في عالم السياسة للانتقام من خصومه السياسيين ، وهو في حقيقة الأمر تدمير للوطن ، وخيانة للثورة والنظام الجمهوري ، وخذلان شعب حكمه لثلاثة عقود.


مكّن صالح حلفاءه الحوثيين من كل مفاصل الدولة ، وهو من كان  يحذر في خطاباته حين كان على  رأس الدولة من أطماعهم وأهدافهم الخبيثة والدفينة التي يضمرونها ضد الشعب والوطن ، ظن صالح أنه الرجل السياسي البارع دائماً  في الرقص على رؤوس الثعابين ، ولم يكن يدرك أن تحالفه مع الحوثيين قد أدخله جُحر أفعى عملاقة لا تقبل الرقص على رأسها ، ولم يشعر بفداحة خطأه من تحالف كهذا ، إلا حين وجد نفسه وحيداً محاصراً في منزله وسط صنعاء يواجه كتائب الموت الحوثية التي تمكنت من قتله  في صباح يوم 4 ديسمبر 2017م ، بطريقة مؤسفة لم يكن أحد يتمنى أن تُكتَب نهايتها بهذا الشكل لا سيما بحق رجل ظل رئيساً لفترة طويلة من الزمن.

بعد مقتل صالح ، تفرد الحوثيون بإحكام السيطرة المطلقة على المناطق الشمالية ، وبدأوا بفرض توجهاتهم السلالية والمذهبية على عامة الناس بطريقة أعادت للأذهان حقبة العهد الإمامي إبان حكم بيت حميد الدين قبل قيام ثورة الـ 26 من سبتمبر عام 1962م ، حيث تزيد حدة السيطرة والاخضاع الفكري والمذهبي التي  يمارسونها على أبناء المجتمع عام بعد أخر.


وصولاً إلى يومنا هذا ، الذي تعيش فيه  المناطق الشمالية تحت سلطة الحوثيين ، بلورة حقيقية لولادة عهد إمامي جديد ، عهد ليس فيه مكان للحريات والحقوق والمواطنة المتساوية  ولا لاحترام التنوع المذهبي والتعدد السياسي والحزبي ، تترسخ جذوره من خلال استخدام آلة العنف والتنكيل والترهيب ، على يد جماعة سلالية ، لا تهتم مطلقاً ، إن كان الإنسان جائعاً أو عاطلاً عن العمل أو مريضاً لا يستطيع الوصول إلى المستشفى، يقتصر دورها فقط على  فرض الضرائب والإتاوات ، وجمع الأموال بمسميات مختلفة ، ولا ترى في المواطن إلا واحداً من أمرين ، إما مقاتلاً في صفوفها أو مصدر جباية يُدر لها أموال طائلة.

إن المواطن في مناطق سيطرة جماعة الحوثي ، يعيش اليوم  حياة تراجيدية بكل تفاصيلها ، يشاهد  أشياء لا تُصدق ، ويعايش بشكل يومي شواهد مؤلمة ومخيفة لم يكن يتوقع أن يراها قط في حياته ، ألا يكفي أن ظاهرة التسول في تلك المناطق  قد تجاوزت تصور العقل البشري ! ، وتحدث كل هذه المآسي والكوارث في الوقت الذي لا يعني الجماعة شيء من ذلك ، سوى الاهتمام بمناسباتها الدينية التي لا تنتهي على امتداد العام ، بدءً من المولدي النبوي الشريف إلى عيد الغدير ، وعاشورا ، وذكرى استشهاد الإمام زيد ، وميلاد السيدة زينب ، وميلاد السيدة فاطمة  ، ويوم القدس ، ويوم الشهيد ، ويوم الصرخة ،  وغيرها من المناسبات والأعياد التي لا تمت بصلة للإنسان اليمني ولا لهويته وتاريخه.


وبعد كل هذا العبث الجائر الذي يشاهده المواطن اليمني في المناطق الشمالية منذ ثمان سنوات ، وما يلتمسه من تجريف للهوية والتاريخ وللقيم الإنسانية وتهديم أسس ومبادئ العيش المشترك ، والخضوع لمنطق القوة والغلبة والاستبداد والهيمنة ، نرى اليوم أن المواطن في تلك المناطق قد انبعثت فيه مجدداً روح ثورة 26 سبتمبر ، بعد أن كانت في طي النسيان ، وأصبح يدرك جيداً أن الثورة هي ذاته وتاريخه الأبدي وعنوانه العريض الذي لا يُمحى  ، ويدرك أن الثورة لا تعني فقط النظام الجمهوري والحكم الديمقراطي ، بل إنها تعني في الأساس معنى أن تنتمي إلى هذه الأرض ، أن تكون إنسان ، أن تعيش معززاً مكرماً ، ومحرراً من الاستغلال والاستبداد والظلم .

لا شك أن الحوثيين اليوم ومن خلال تبنيهم الأفكار والسلوكيات الهدامة المستوحاة من عصور الإمامة الكهنوتية البائدة ، قد اسهموا في إعادة إحياء ثورة 26 سبتمبر في قلوب اليمنيين ، وصار  لذكرى الثورة مذاقاً أخر في نفوسهم ، وأصبح أبناء اليمن مع كل ذكرى يبحثون في تاريخ الثورة ، وينشرون صور أبطالها أمثال ، القردعي وعلي عبد المغني ، والزبيري ، والثلايا ، واللقية ، والعلفي ، والهندوانة ، باعتبار هؤلاء رموزاً ثورية وطنية كان لهم الأثر الكبير في محاربة الإمامة والقضاء عليها ، ولما تمثله تضحياتهم من مصدر إلهام لأجيال باتت تدرك أن الثورة تعني في مجملها شرف إنسان وكرامة وطن .

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى