​بُتِرت ساقه جراء إسعاف الجرحى..من هو مهندس الدراجات ذو الساق الواحدة؟

> معاذ ناجي المقطري

> على أكثر من شارع وحي وزقاق في مدينة تعز، تلمح أعين المارين مهندس الدراجات النارية محمد عبده دحان، وهو واقف على ساق واحدة يسندها بعكازه الصناعي، ومادًا يديه الماهرتين لإصلاح دراجة نارية مركونة هناك، ما تلبث أن يمتطيها سائقها وينطلق.

صورة تثير فضول البحث عن القصة الكاملة لمهندس الدراجات النارية الذي احترف الحياة في زحمة المدينة المخنوقة بالحصار في ظل أزمة إنسانية مستحكمة، طال أمدها في البلاد.

"يتصل بي العديد من الزبائن الذين أنجدهم في إصلاح دراجاتهم، وغالبًا ما أنجح في إصلاحها"، قال محمد دحان بزهو الواثق من مهارته التي طورها في برنامج التلمذة المهنية، وقد تخرج منه مطلع هذا العام.

وهو اليوم يطوي الـ25عامًا من عمره، وقد أصبح لديه أسرة يعولها بمستوى عالٍ من الأمان الاقتصادي الذي حققه بفضل مهارته المهنية تلك.
مهارة يحضر بها دحان في أوساط المجتمع المحلي لمدينة تعز مجسدًا صورة رمزية لصمود الجرحى من المدنيين العزل الذين فقدوا أطرافهم في جحيم الحرب.

وجع لم يره العالم

في حديثه اليوم يستحضر دحان صورًا ومشاهد مروعة من الحرب التي جعلت مدينة تعز مسرحًا لها، بين القوات الموالية للحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا، وجماعة أنصار الله (الحوثيين)، وألحقت خسائر فادحة في صفوف المدنيين والأعيان المدنية والممتلكات الخاصة، وأجبرت السكان على النزوح.
والأكثر إيلامًا هي تلك الصور التي تعود به إلى الرابع من يناير 2017، وتثقل قلبه بذكرى وجع أليمة.

يتذكر كيف أنه حاول النهوض من كرسيه على طاولة الكافيتريا الواقعة بحيه السكني بجولة سنان (شمال المدينة)، محاولًا إسعاف ضحايا، سقطوا بالقرب منه جراء قذائف الهاون التي حلت على المكان، ليجد ساقه اليمنى قد بترت من فوق الركبة بفعل القذائف ذاتها.
قال إن دراجته النارية التي أراد ركوبها ليحمل على متنها الضحايا، فجأة وجدها تحمله إلى المشفى، بقيادة شاب آخر هرع إلى المكان مشاركًا في عملية الإنقاذ.

ويتصاعد حديث دحان مفعمًا بحسراته على أولئك الذين حصدت الحرب أرواحهم، وأطرافهم، فيما كانوا يلوذون بالأمان داخل أحيائهم السكنية، التي هلكوا في أحضانها، أو فروا منها مذعورين تحت نيران القصف العشوائي نحو مخيمات ومناطق النزوح.

رقم في سجل المأساة

في مشافي تعز المكتظة بالضحايا، وجد دحان نفسه مضافًا إلى قوام يتخطى 500 جريح بترت الحرب أطرافهم، ضمن ما يزيد عن 21 ألف جريح، دونتهم سجلات اللجنة الطبية لجرحى تعز، خلال المدة من مارس 2015 حتى 26 يوليو 2019.

وذكرت اللجنة، في بيان صادر عنها في 26 يوليو 2019، أن أكثر من 500 جريح مبتورو الأطراف، وأكثر من 260 جريحًا أصيبوا بإعاقة كاملة، فيما أصيب نحو ألف جريح بإعاقة جزئية، وأغلب هذه الحالات تتطلب نقلها للعلاج خارج اليمن.

وفي مطلع العام الجاري، ذكرت اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن "حوالي 4.5 مليوني يمني يحملون إعاقات، جراء الحرب في اليمن، أي ما يعادل 15 % من مجموع السكان".

وقالت إيمان الطرابلسي، المتحدثة باسم اللجنة الدولية للصليب الأحمر في الشرق الأوسط والأدنى: "يحتاج حوالي 150 ألف شخص إلى خدمات الأطراف الصناعية، بسبب ارتفاع عدد ذوي الإعاقة جراء الحرب في اليمن". مؤكدة دعم الصليب الأحمر لعلاج عشرات الآلاف من جرحى الحرب في اليمن كل عام، وتقديم الخدمات لقرابة 50 ألف شخص من ذوي الإعاقة.

حيال هذه المأساة يتابع محمد دحان حياته معتمدًا على قواه ومهارته الذاتية، وفي مطلع العام 2018 كان عليه أن يعود مجددًا للعمل على متن دراجته النارية ليتابع حياته بصورتها المعتادة، دون أي تأثير يذكر للإعاقة التي تعرض لها.
قال إن الإعاقة في مفهومه ما هي إلا إعاقة نفسية أو عقلية، الشيء الذي لم يطله البتة.

مهندس الدراجات النارية الذي طوف مدينة تعز على ساق واحدة
مهندس الدراجات النارية الذي طوف مدينة تعز على ساق واحدة

حلم قصفته الحرب

ولد محمد عبده دحان، في 2 يوليو 1997، في قرية الشيخان النائية بمديرية التعزية شرق محافظة تعز، وهو اليوم يتذكر جانبًا من طفولته التي عاشها هناك.
قال إن والده الذي تقاعد من الجيش اليمني عام 2005، كان هو الآخر يحمل أبناء بلدته الفقيرة إلى مدينة تعز على متن دراجته النارية بالأجرة، وهو عمل يحقق كسبًا جيدًا، لاسيما في القرى والبلدات التي يكون فيها السفر والتنقلات شاقًا ومكلفًا بالنسبة للحافلات وسيارات الأجرة.

وعلى خطى والده، أنهى محمد دحان تعليمه الثانوي، موائمًا بين التعليم صباحًا والعمل على دراجته النارية مساءً.
وكان عليه أن ينطلق في رحلات المسافات الطويلة، ليقل الركاب إلى مدينة تعز، إلى أن أكمل فصول دراسته الثانوية.

قال إن سفره اليومي إلى مدينة تعز ظل يحلق بحلمه في دراسة المحاسبة التي يعشقها، وكان عليه الانتقال للعيش في المدينة، عازمًا الالتحاق بجامعة تعز.
على أن الحرب اللعينة اندلعت هناك، وقطعت أمامه سبل التحاقه بالجامعة التي أغلقت أبوابها لعامين جراء المعارك التي دارت على محيطها، كما قطع الحصار المطبق على المدينة طريق عودة إلى قريته النائية.

الصمود الملهم

وفي منتصف العام 2020، شق دحان طريقه إلى برنامج التلمذة المهنية الذي نفذته منظمة العمل الدولية مع شريكها المحلي: منظمة غدق للتنمية، إذ كانت "التعزية" التي قدم منها دحان هي إحدى مديريات تعز التي استهدفها البرنامج ضمن عدد من مديريات تعز ولحج وأبين.

ويصفه مدربه في برنامج التلمذة المهنية خليل السروري، بالمهني المثابر ذي الهمة العالية والذكاء المتوقد.
ذلك هو محمد دحان الذي يلوح أمام أعين الناس في مدينة تعز بطلًا لقصة صمود ملهمة.

ومؤخرًا استأجر له محلًا داخل حيه السكني، ليجعل منه عنوانًا لعمله في إصلاح الدراجات النارية.
إنه العنوان الذي يلهم أقرانه من شبان وفتيات مدينة تعز، إلى عالم ريادة الأعمال. عالم يفسح الطريق لمن امتلك إرادة حقيقية للمضي قدمًا، ولو بساق واحدة.

"المشاهد نت"

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى