نقطة تحوّل في العلاقات الألمانية الخليجية

> دينا فاقوسة/ باحثة في العلاقات الخارجية الألمانية

> ​تضطر الكثير من الدول إلى التدافع بحثا عن مصادر جديدة للنفط والغاز بينما يعقّد غزو روسيا لأوكرانيا وضعية أمن الطاقة الأوروبي. وقد أصبح التنويع تحديا وجوديا بالنسبة إلى ألمانيا التي كانت تستورد من روسيا قبل الغزو 34 في المئة من نفطها و55 في المئة من غازها.

وتتصدر دول الخليج قائمة المصدرين المحتملين. وزار المستشار الألماني أولاف شولتس مؤخرا المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر لتأمين صفقات الغاز وكبح جماح الأسعار المرتفعة.

وبعد مرور أيام على هذه الزيارات، يتساءل الكثيرون عما تحقق باستثناء عقود طاقة قليلة. هل كانت جولة شولتس تشير إلى تعميق العلاقات الألمانية – الخليجية؟

العلاقات بين ألمانيا والخليج ليست ظاهرة جديدة، فالتبادل التجاري بين ألمانيا ودول مجلس التعاون الخليجي قائم منذ عقود. لكن ما تغير هو أن ألمانيا تتعامل اليوم مع دول الخليج من موقع ضعف. وكلما أصبح أمن الطاقة الألماني متشابكا مع أسواق الطاقة في الخليج زاد استثمار برلين في استقرار المنطقة، بما في ذلك أمنها البحري.

وما علينا إلا أن ننتظر لنرى النتائج التي ستسفر عنها زيارة شولتس، خاصة أن العقود المبرمة متواضعة مقارنة بما خسرته ألمانيا من عقود كانت مبرمة مع روسيا (كانت ألمانيا في السنوات الأخيرة أكبر مشترٍ للوقود الأحفوري الروسي في الاتحاد الأوروبي).

على سبيل المثال، لم تُبرم أي صفقة للغاز الطبيعي المسال في قطر، بسبب الخلافات حول مدة العقود التي من شأنها أن تتعارض مع الهدف الذي وضعته ألمانيا والمتمثل في أن تصبح البلاد محايدة كربونيًّا بحلول 2045. وفي الوقت نفسه اقتصر العقد الموقع في الإمارات على كمية 137 ألف متر مكعب فقط من الغاز الطبيعي المسال، وهو جزء بسيط من 56.3 مليار متر مكعب حصلت عليها ألمانيا من روسيا في عام 2020 وحده.

ولا يوجد شك الآن في أن الحرب الروسية أدت إلى تسريع الاتجاه الذي كان قائما بالفعل بغض النظر عما أسفرت عنه الزيارة.

وأعطت ألمانيا، بصفتها اقتصاد سوق معولما وموجها بشكل كبير إلى التصدير، الأولوية لتدفق السلع الحر واستقرار أسعار النفط والغاز والمرور الآمن للوقود الأحفوري. وسيزداد اهتمام ألمانيا بأمن الخليج من خلال تحولها إلى مستورد مباشر لإمدادات المنطقة من الطاقة.

وستكون المنطقة العربية، بما في ذلك الخليج، ضرورية أيضا إذا أرادت ألمانيا تحقيق أهدافها في مجال الطاقة الخضراء. وسيكون حياد الكربون مستحيلا دون استيراد كميات كبيرة من الهيدروجين الأخضر الذي تخطط دول الخليج لإنتاجه بكثرة.

وكانت ألمانيا قد أبرمت بالفعل اتفاقيات هيدروجين مع العديد من الدول، بما في ذلك الإمارات والسعودية قبل رحلة شولتس، وكان الاتفاق على مصدر لهذه الطاقة قضية رئيسية خلال زيارته.

ورغم أن ألمانيا وبقية أوروبا تعتمدان على الخليج بشكل متزايد للحصول على الطاقة، إلا أن هذا لا يعني بالضرورة حصول تحولات كبيرة في السياسة الأمنية الألمانية تجاه دول المنطقة، ولا يؤكد ما ذهب إليه شولتس في فبراير الماضي بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، من أن برلين ستحدد سياسة أمنية أكثر عسكرة في علاقاتها الثنائية، معتبرا ذلك “نقطة تحول تاريخية”، بل ستركز على تخصيص زيادة كبيرة في نفقاتها الدفاعية لتحديث قواتها المسلحة.

وتطالب شخصيات من المعارضة الألمانية شولتس بأن يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، داعية إلى التعاون الأمني ​​وبيع أسلحة لدول الخليج، والسبب المنطقي هو أن خطوة مثل هذه ستمنح ألمانيا المزيد من القوة التفاوضية وستعزز مكانتها في المنطقة، على غرار تلك التي تتمتع بها دول أوروبية أخرى ذات ثقل مثل المملكة المتحدة وفرنسا.

لكن مثل هذا التحول في السياسة لن يحدث في ظل الحكومة الحالية. وبغض النظر عن كميات الأسلحة التي باعتها ألمانيا، فإنها لن تتمتع أبدا بتأثير كبير على السياسات الوطنية أو الإقليمية نظرا إلى الموارد المالية الخليجية وتحررها من الغرب وإبحارها المربح في النظام العالمي متعدد الأقطاب.

ولألمانيا أيضا أسباب تدعوها إلى ضبط النفس. وغالبا ما توجد تناقضات كبيرة بين مواقفها ومواقف بعض دول الخليج من النزاعات الإقليمية مثل اليمن وليبيا وسوريا وإيران. ونظرا إلى هذه الاختلافات ستتصدر الدبلوماسية والحوار نهج سياسة ألمانيا عند معالجة التحديات الأمنية في المنطقة. وكما حدث من قبل، ستعمل ضمن الأطر الغربية متعددة الأطراف.

وفي حين أن مبيعات الأسلحة والتعاون العسكري قضايا غير مطروحة على الطاولة، ستواصل ألمانيا وحلفاؤها الخليجيون التركيز على قضايا مثل أمن الطاقة والتخفيف من أزمة المناخ والتجارة الثنائية والاستثمار. ومن المرجح أن يزيد ذلك من التنسيق والعمل المشترك في مجال المساعدة الإنسانية وجهود التنمية، ويدعم التبادلات الثقافية والمجتمعية. ويتماشى كل مجال من هذه المجالات مع شراكة الاتحاد الأوروبي الإستراتيجية للمشاركة والتعاون مع منطقة الخليج.

وعلى مستوى السياسة الخارجية الألمانية أيضا خففت برلين من حدة النقد بشأن قضايا حقوق الإنسان في المنطقة؛ حيث تحتم التحديات الوجودية لأزمة الطاقة الحالية التغاضي عن قضايا سياسية لا يلتقي فيها الجانبان على موقف موحد.

ولطالما اتبعت ألمانيا سياسة واقعية في المنطقة، ويراهن شولتس على أن الانتقادات المرتبطة بمخاوف على حقوق الإنسان سوف تتضاءل في ظل الوضع الاقتصادي وأن هذا سيفتح المجال لسيادة البراغماتية. وتشير التوقعات إلى أنه محق في ذلك؛ حيث تتعزز يوميا وجهة نظر الحكومة هذه داخل المجتمع مع الصعوبات المتزايدة التي يغذيها التضخم المرتفع وأسعار الطاقة الباهظة واحتمال حدوث نقص في السلع الأساسية.

وتضررت ألمانيا كثيرا بسبب سياسة الطاقة التي جعلتها تعتمد على الغاز الروسي بشكل كبير، وأدت حرب أوكرانيا إلى إعادة التفكير في سياساتها الدفاعية والاقتصادية القائمة منذ فترة طويلة.

وقد اختارت ألمانيا، وهي الاقتصاد الأضخم في أوروبا، أن تسير خلال عدة عقود على طريق الحوار والتحوّط في المعاملات المالية، وهذا ما يدفع إلى القول بأن دول الاتحاد الأوروبي الأخرى ستراقب نهج برلين الجديد تجاه الخليج عن كثب، حيث تتطلع القارة إلى اجتياز ما يعتقد الكثيرون أنه أكبر أزمة منذ الحرب العالمية الثانية.


> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى