> أ. د. عبدالله سالم بن غوث
6210 إصابة و 64 وفاه بمرض الحصبة في 13 محافظة لعام 2022م
الشيخ عثمان والحد والمنصورة والمكلا الأكثر تأثرًا في المناطق المحررة
في صنعاء وحدها 18.5 ألف حالة توفي منها 131
73 % من المصابين أطفال دون سن الخامسة
> الحصبة مرض مُعدٍ سريع وشديد الانتقال بالمخالطة اللصيقة نتيجة الانتقال المباشر للفيروس المسبب للمرض عبر قطيرات الهواء أو الرذاذ أثناء العطاس أو السعال. وفيروس الحصبة لا يصيب إلا الإنسان، فالشخص المصاب هو مستودع ومصدر العدوى. وتظهر أعراض وعلامات المرض بعد فترة حضانة تُقدّر في أغلب المراجع العلمية بين 7 – 21 يوم (في المتوسط 14 يوم). الأعراض والعلامات الرئيسة لمرض الحصبة هي حمى وطفح جلدي مميز لمرض الحصبة وممكن تصاحبهما سعال أو احمرار العين أو نزول من الأنف. وللحصبة تاريخ وبائي منذ آلاف السنين وأول من فرّق بين الطفح الجلدي للحصبة عن الجدري هو الطبيب العربي أبوبكر الرازي في القرن التاسع الميلادي وفي عام 1757م عرّف الطبيب الاسكتلندي فرانسس مرض الحصبة بأنه مرض معدي يسببه عامل معدي (ميكروب). والحصبة مرض شديد الضراوة يؤدي الى مضاعفات خطيرة وكثير من الوفيات حين يفتقد المريض للمناعة الكافية.
للأسف لا يوجد لمرض الحصبة علاج نوعي، ويعتمد معالجة المرضى على العلاجات التدعيمية ومعالجة المضاعفات ومستوى المناعة والحالة التغذية للمريض مما يسبب الكثير من المضاعفات الشديدة كالالتهابات الرئوية والوفيات.
وللوقاية من مرض الحصبة فإنه يوجد لقاح آمن وفعال وحسب علمنا فإن لقاح الحصبة هو التدخّل النوعي الوحيد الذي يعتمد عليه في احتواء أوبئة الحصبة والتخلّص من المرض. بدأ انتاج لقاح الحصبة عام 1963م لكن انتشرت برامج التحصين الوطنية بفعالية أكثر منذ عام 1980م وكانت لأنشطة التطعيم ضد مرض الحصبة أثر كبير في خفض عدد الوفيات الناجمة عن المرض.
بدأت كثير من الدول مبكراً رصد مرض الحصبة في نظامها الصحي نتيجة الانتشار الكبير قبل التوصل إلى اللقاح. ففي الولايات المتحدة الأمريكية سجلت منذ عام 1912م ما يقارب 6000 شخص مصاب بالحصبة سنوبا وحوالي 400-500 وفاة، حتى بدأ ادخال لقاح الحصبة عام 1963م بعدها بدا الانخفاض وتباعد تكرار الأوبئة بشكل ملحوظ.
الانخفاض الملحوظ لحالات الحصبة عالمياً شجع منظمة الصحة العالمية أن تبدأ مرحلة التخلص من المرض وحصلت بعض الدول على إجراءات التخلص من الحصبة من المنظمة مثل الولايات المتحدة الأمريكية (عام 2000م)، المملكة المتحدة (عام 2017م). لكن ما حصل منذ عام 2018م إلى الآن (بداية 2023م) شكل تراجعا للجهود الدولية والوطنية لمواجهة أوبئة الحصبة حيث تقارير منظمة الصحة العالمية تفيد بزيادة عدد حالات الحصبة عام 2022م ب 75 % عن عام 2021م. ومثال على ذلك الهند التي تستعد للقضاء على مرض الحصبة هذه السنة 2023م تتفاجأ بأكبر وباء للحصبة عام 2022م حيث أصاب 12733 شخص، و في الولايات المتحدة الأمريكية تكررت أوبئة الحصبة و كان أشدها في عام 2019م حيث حصدت 1276 إصابة نصفهم غير ملقحين بلقاح الحصبة، و في المملكة المتحدة تضاعفت عدد حالات الحصبة ثلاث مرات من 284 إصابة عام2017م إلى 991 إصابة عام 2018م، ورصدت منظمة الصحة العالمية تفشي الحصبة في الدول الأوربية بحوالي 27475 إصابة عام 2017م و59578 إصابة عام 2018م.
وفي الدول النامية فحدّث ولا حرج، ففي موزمبيق حصد وباء الحصبة في بداية عام 2022م 6500 إصابة و708 وفاة وفي جنوب أفريقيا بعد عقدين من انخفاض حالات الحصبة، ظهر في عام 2022م أشد وباء للحصبة خلّف 6000 وفاة.
في شهر إبريل 2022م، نشرت منظمة الصحة العالمية واليونيسيف تحليلاً حذرت فيه من تصاعد أوبئة الحصبة بشكل مخيف عالميا خصوصا في خمس دول هي نيجيريا وأفغانستان وأثيوبيا والصومال واليمن. وذكر التقرير أن عدد الإصابات المسجلة خلال 12 شهرا حتى إبريل 2022م في اليمن ب 3629 حالة بمعدل الهجمة السنوية بـ 116 إصابة لكل مليون شخص وتغطية روتينية بلقاح الحصبة لا يتجاوز الـ 68 %. الأمر بالنسبة لليمن خطير جدا وينذر بتوجه وبائي مستمر نتيجة ضعف التغطية باللقاح والانتشار الوبائي بدول الجوار (إثيوبيا والصومال).
كل التقارير المتواترة الرسمية وغير الرسمية تتفق أن زيادة مضطردة في الإصابة بمرض الحصبة في أغلب المحافظات والمديريات في اليمن منذ بضع سنوات خصوصاً بعد عام 2015م نتج عن ذلك عشرات الوفيات، وأن أغلبية المصابين هم أطفال دون الخامسة من العمر والأغلبية أيضا لم يتلقوا أي جرعة من لقاح الحصبة. ففي دراسة نشرت عام 2021م بينت أن عدد حالات الحصبة المسجلة عام 2018م بلغت 4474 إصابة و91 وفاه (معدل الهلاك 2 %)، الدراسة أيضا أشارت إلى انتشار لوباء الحصبة في عدة محافظات منها صعده والجوف (عام 2015م) وعمران (عام 2017م) وشبوة (عام 2018م).
و ذكر تقرير غير رسمي أن إجمالي حالات الحصبة المشتبه و المسجلة بنظام الرصد الإلكتروني للإنذار المبكر بوزارة الصحة في عدن عام 2021م تقدّر ب 1553 حالة حصبة توفي منها 9 حالات، بينما ارتفعت حالات الحصبة خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2022م الى 6210 حالة و نتج عنها 64 وفاة في 13 محافظة، 26 % من حالات الحصبة حدثت في مدينة عدن. ومن المديريات الأكثر تأثراً بمرض الحصبة عام 2022م مديريات الشيخ عثمان (493 حالة)، مديرية الحد (384 حالة)، المنصورة (271 حالة) و مدينة المكلا (267 حالة) و تشير البيانات إلى أن 73 % من حالات الحصبة استهدفت الأطفال دون الخامسة من العمر و أن 75 % من المصابين غير مطعمين بلقاح الحصبة. وفي تقرير أخر تم رصد 648 حالة اشتباه بالحصبة في العام 2022م بمناطق وادي وصحراء حضرموت أغلبها بمدينة سيئون كما تم رصد 113 حالة اشتباه بالحصبة، خلال أول أسبوعين من شهر يناير لعام 2023م، تزامن رصد البيانات أعلاه مع رصد بيانات مشابهة من موقع وزارة الصحة العامة والسكان في صنعاء الذي أشار إلى ارتفاع حالات الحصبة عام 2022م إلى 18,597 حالة توفي منها 131 حالة.
و تفيد تقارير منظمة الصحة العالمية أن التمنيع ضد الحصبة ساهم في خفض الوفيات الناجمة عن الحصبة على الصعيد العالمي انخفاضاً بنسبة 73 % (من 53600 في 2000 إلى 142000 في عام 2018، بينما كشفت كثير من التقارير الدولية ومنها تقارير منظمة الصحة العالمية أن تدهور الوضع الوبائي لمرض الحصبة عالميّاً عام 2020م وما بعده يعزو إلى جائحة كوفيد-19 وما سببته من الإغلاقات وتوقف الخدمات الصحية الأساسية، لكن الوضع في اليمن مختلف ومخيف وبائيا، لتداخل عوامل متعددة ضمن السياق الصحي والاجتماعي والإنساني.
الوضع الإنساني في اليمن يوصف بمعدلات مرتفعة من انعداد الأمن الغذائي ومعدلات مرتفعة لسوء التغذية الحاد والمزمن بالإضافة إلى تزايد أعداد النازحين إلى أكثر من 4 ملايين نازح إلى عدد من المحافظات ومنها مأرب وعدن فقد وصلت مستويات الهزال بين الأطفال دون الخامسة من العمر إلى مستوى خطير (10-15 %) أو مستوى حرج (15 %)كما وصلت مستويات التقزم إلى 45 %.13 ومعروف ارتباط التعرض لمرض الحصبة بسوء التغذية وظروف النازحين واللاجئين.
من المعطيات أعلاه، تظهر أسئلة أخرى لاستكشاف الروابط الوبائية لوباء يتم مكافحته بلقاح فعّال و مازال ينتشر جغرافياً كإصابات و وفيات في كل ربوع اليمن:
- هل الانتشار الوبائي المستمر للحصبة في اليمن ضمن سياق الانتشار العالمي والإقليمي أم له محددات محلية؟
- هل تجدد أوبئة الحصبة تعزو للقاح نفسه أو للفيروس أو لصعوبات برامجية تواجه البرنامج الوطني للتحصين الموسع وبرنامج الترصد؟
- هل هناك معوقات اجتماعية أو ثقافية تمنع الاستفادة من فرص التطعيم أو أن تنقل النازحين واللاجئين عبء إنساني لا مفر من استيعاب نتائجه الوبائية؟
صحيح أن الحصبة تنتشر في كثير من دول العالم منها المتقدمة لكن لديها برامج قوية لاحتواء الأوبئة كما أن فرضية تأثر أنظمة التحصين الوطنية بجائحة كوفيد-19 هو تأثّر مؤقت ولا يمكن أن يؤدي الى تراكم أجيال غير ممعنة خلال فترة الاغلاق التي لم تتجاوز حتى السنتين، كما ان اوبئة الحصبة مستمرة في اليمن حتى قبل ظهور جائحة الكوفيد-19، فهو ليس في السياق العالمي او الإقليمي للوباء ولكن يتماهى مع الوضع الوبائي في الدول التي تعيش أوضاعا إنسانية وحروب (الصومال مثالاً).
ومرض الحصبة يظهر وبائيا عند تراكم الأجيال غير المحصنة بلقاح الحصبة أو من المناعة الطبيعية، وفي حالة ضعف التغطية الروتينية بلقاح الحصبة (حوالي 50 %) فإن تراكم الأجيال غير ممنعة يكون سريعا وتظهر الأوبئة في كل منطقة أو مديرية كل سنتين أو أقل. و فيروس الحصبة من الفيروسات الأكثر استقراراً و لا تؤثر عليه التحورات. فالفيروس هو الفيروس منذ قبل انتاج لقاح الحصبة مما يعطي اللقاح فعالية أكثر اذا أعطي على شكل جرعتين. و لكون الإصابة بمرض الحصبة تعطي مناعة طبيعية مدى الحياه فأن ظهور الحصبة يمثل حالات جديدة غير محصنة لا باللقاح و لا بالمناعة الطبيعية، و رغم ضعف التشخيص المخبري لمرض الحصبة باليمن فإن أغلب الحالات المسجلة في نظام الترصد في اليمن هي حالة مشتبهة و معتمدة على التشخيص السريري و هو ما يخلط في التشخيص النهائي مع الحصبة الألمانية و أمراض أخرى و إلى أن يتعزز الرصد المخبري لمرض الحصبة في اليمن فأن البيانات المتواترة عن تفشي مرض الحصبة في أكثر من محافظه تؤخذ في الاعتبار بشكل جدي تماهيا مع تجدد الانتشار العالمي و الإقليمي لحالات مؤكدة مخبريّاً أصابتها بالحصبة.
البرنامج الوطني للتحصين الموسع لديه من الخيرات الكافية على مدى ثلاثين عاما في إدارة العمليات الميدانية للتطعيم عبر آلياته المختلفة من برنامج روتيني وحملات وأنشطة خارج الجدران والتواصل مع المجتمع مما يدل أنه لا توجد معوقات برامجية جوهرية. لكن تبقى المشكلة في ضعف التغطية الروتينية بلقاح الحصبة (الجرعة الأولى) ورغم التقارير الرسمية تسجل في أحسن الأحوال معدل التغطية بـ 68 % وهي نسبة ضعيفة لكن دراسة أخرى نشرت في مجلة "لانست" عام 2016م قدرت التغطية الروتينية بلقاح الحصبة في اليمن بأنه لا يتجاوز الـ 46 %.16 وهو مؤشر يؤهل حدوث وبائي لمرض الحصبة يشكل مستمر، فاحتواء أوبئة الحصبة في اليمن يتطلب أولا تطعيم غير الملقحين وهم يشكلون حوالي 40 - 50 % من الأطفال في عمر 9 أشهر إلى سنة وتطعيم من لم يُطعَّم بعمر أكثر من سنة. وقد نفذت وزارة الصحة العامة والسكان حملة تطعيم في عام 2022م استهدفت الأطفال من عمر 6 أشهر إلى عشر سنوات في بعض المحافظات والمديريات لكن الوباء مازال مستمراً، فهل تم الوصول للفئة المخفية في المجتمع وهم غير المطعمين إطلاقاً لأسباب عدم الاقتناع أو التردد استجابة للشائعات حول اللقاحات التي انطلقت مع جائحة الكوفيد-19؟
ثلاثة استنتاجات وبائية حول تفشي الحصبة في اليمن يمكن التقاطها بالإضافة إلى تخوّف ميداني واحد، الأولى حدوث الحصبة في المدن الكبيرة مثل عدن والمكلا و هو ينفي أي مشاكل برامجية حيث توفر الخدمات الصحية و سهولة الوصول، و الثانية انتشار الحصبة بشكل أساسي بين الأطفال دون الخامسة من العمر و أغلبهم غير مطعمين مما يدل على التراكم السريع للمعرضين للمرض، و الثالثة حدوث وفيات بين المصابين من مرض الحصبة في أكثر من محافظة و هو مؤشر للوضع الخطير الذي وصل إليه الوباء.
التخوّف الميداني أن تكون حملات التطعيم استهدفت المطعمين أصلاّ ولم تقلص الفجوة لدى غير المطعمين الذين هم قنبلة موقوتة لتفشٍ آخر للوباء وما حدوث الأوبئة في المدن إلا أحد مؤشراته.
تردد الآباء والأمهات أو معارضتهم لتطعيم أطفالهم بأي لقاح لأسباب دينية، ثقافية اجتماعية أو إعلامية وأحياناً لمبررات غير علمية واهية لن يزيد من نسبة التغطية في الحملات أو التطعيم الروتيني حتى لو كانت الخدمات الصحية بالقرب من مساكنهم والإعلام الصحي يصل إلى مسامعهم، مشكلة التردد والامتناع عن التطعيم أصبحت ظاهرة عالمية تحتاج إلى وسائل إبداعية ومجتمعية وليس الاقتصار على جهود وزارة الصحة العامة لأنها تكاد تكون ظاهرة رأي عام.
خصوصية اليمن تتمثل في الوضع الإنساني الاستثنائي المتمثل في انعدام الأمن الغذائي وعدم الاستقرار المعيشي مما تأخذه الأُسر كأولوية قصوى قبل الاهتمام بحملات التطعيم والتثقيف العقيم.
أتمنى أن يكون هناك تقييم لمدى استجابة غير المطعمين لجهود وزارة الصحة في كل مديرية للتطعيم ضد الحصبة جرعة أولى (أولاً) وجرعة ثانية (ثانياً) وتغطية النقص في تطعيم الأطفال الكبار (ثالثاً) وتوجيه برامج انتقائية لهذه الفئات بأي وسية مقنعة لاحتواء أوبئة قادمة.
الشيخ عثمان والحد والمنصورة والمكلا الأكثر تأثرًا في المناطق المحررة
في صنعاء وحدها 18.5 ألف حالة توفي منها 131
73 % من المصابين أطفال دون سن الخامسة
> الحصبة مرض مُعدٍ سريع وشديد الانتقال بالمخالطة اللصيقة نتيجة الانتقال المباشر للفيروس المسبب للمرض عبر قطيرات الهواء أو الرذاذ أثناء العطاس أو السعال. وفيروس الحصبة لا يصيب إلا الإنسان، فالشخص المصاب هو مستودع ومصدر العدوى. وتظهر أعراض وعلامات المرض بعد فترة حضانة تُقدّر في أغلب المراجع العلمية بين 7 – 21 يوم (في المتوسط 14 يوم). الأعراض والعلامات الرئيسة لمرض الحصبة هي حمى وطفح جلدي مميز لمرض الحصبة وممكن تصاحبهما سعال أو احمرار العين أو نزول من الأنف. وللحصبة تاريخ وبائي منذ آلاف السنين وأول من فرّق بين الطفح الجلدي للحصبة عن الجدري هو الطبيب العربي أبوبكر الرازي في القرن التاسع الميلادي وفي عام 1757م عرّف الطبيب الاسكتلندي فرانسس مرض الحصبة بأنه مرض معدي يسببه عامل معدي (ميكروب). والحصبة مرض شديد الضراوة يؤدي الى مضاعفات خطيرة وكثير من الوفيات حين يفتقد المريض للمناعة الكافية.
للأسف لا يوجد لمرض الحصبة علاج نوعي، ويعتمد معالجة المرضى على العلاجات التدعيمية ومعالجة المضاعفات ومستوى المناعة والحالة التغذية للمريض مما يسبب الكثير من المضاعفات الشديدة كالالتهابات الرئوية والوفيات.
وللوقاية من مرض الحصبة فإنه يوجد لقاح آمن وفعال وحسب علمنا فإن لقاح الحصبة هو التدخّل النوعي الوحيد الذي يعتمد عليه في احتواء أوبئة الحصبة والتخلّص من المرض. بدأ انتاج لقاح الحصبة عام 1963م لكن انتشرت برامج التحصين الوطنية بفعالية أكثر منذ عام 1980م وكانت لأنشطة التطعيم ضد مرض الحصبة أثر كبير في خفض عدد الوفيات الناجمة عن المرض.
بدأت كثير من الدول مبكراً رصد مرض الحصبة في نظامها الصحي نتيجة الانتشار الكبير قبل التوصل إلى اللقاح. ففي الولايات المتحدة الأمريكية سجلت منذ عام 1912م ما يقارب 6000 شخص مصاب بالحصبة سنوبا وحوالي 400-500 وفاة، حتى بدأ ادخال لقاح الحصبة عام 1963م بعدها بدا الانخفاض وتباعد تكرار الأوبئة بشكل ملحوظ.
الانخفاض الملحوظ لحالات الحصبة عالمياً شجع منظمة الصحة العالمية أن تبدأ مرحلة التخلص من المرض وحصلت بعض الدول على إجراءات التخلص من الحصبة من المنظمة مثل الولايات المتحدة الأمريكية (عام 2000م)، المملكة المتحدة (عام 2017م). لكن ما حصل منذ عام 2018م إلى الآن (بداية 2023م) شكل تراجعا للجهود الدولية والوطنية لمواجهة أوبئة الحصبة حيث تقارير منظمة الصحة العالمية تفيد بزيادة عدد حالات الحصبة عام 2022م ب 75 % عن عام 2021م. ومثال على ذلك الهند التي تستعد للقضاء على مرض الحصبة هذه السنة 2023م تتفاجأ بأكبر وباء للحصبة عام 2022م حيث أصاب 12733 شخص، و في الولايات المتحدة الأمريكية تكررت أوبئة الحصبة و كان أشدها في عام 2019م حيث حصدت 1276 إصابة نصفهم غير ملقحين بلقاح الحصبة، و في المملكة المتحدة تضاعفت عدد حالات الحصبة ثلاث مرات من 284 إصابة عام2017م إلى 991 إصابة عام 2018م، ورصدت منظمة الصحة العالمية تفشي الحصبة في الدول الأوربية بحوالي 27475 إصابة عام 2017م و59578 إصابة عام 2018م.
وفي الدول النامية فحدّث ولا حرج، ففي موزمبيق حصد وباء الحصبة في بداية عام 2022م 6500 إصابة و708 وفاة وفي جنوب أفريقيا بعد عقدين من انخفاض حالات الحصبة، ظهر في عام 2022م أشد وباء للحصبة خلّف 6000 وفاة.
في شهر إبريل 2022م، نشرت منظمة الصحة العالمية واليونيسيف تحليلاً حذرت فيه من تصاعد أوبئة الحصبة بشكل مخيف عالميا خصوصا في خمس دول هي نيجيريا وأفغانستان وأثيوبيا والصومال واليمن. وذكر التقرير أن عدد الإصابات المسجلة خلال 12 شهرا حتى إبريل 2022م في اليمن ب 3629 حالة بمعدل الهجمة السنوية بـ 116 إصابة لكل مليون شخص وتغطية روتينية بلقاح الحصبة لا يتجاوز الـ 68 %. الأمر بالنسبة لليمن خطير جدا وينذر بتوجه وبائي مستمر نتيجة ضعف التغطية باللقاح والانتشار الوبائي بدول الجوار (إثيوبيا والصومال).
كل التقارير المتواترة الرسمية وغير الرسمية تتفق أن زيادة مضطردة في الإصابة بمرض الحصبة في أغلب المحافظات والمديريات في اليمن منذ بضع سنوات خصوصاً بعد عام 2015م نتج عن ذلك عشرات الوفيات، وأن أغلبية المصابين هم أطفال دون الخامسة من العمر والأغلبية أيضا لم يتلقوا أي جرعة من لقاح الحصبة. ففي دراسة نشرت عام 2021م بينت أن عدد حالات الحصبة المسجلة عام 2018م بلغت 4474 إصابة و91 وفاه (معدل الهلاك 2 %)، الدراسة أيضا أشارت إلى انتشار لوباء الحصبة في عدة محافظات منها صعده والجوف (عام 2015م) وعمران (عام 2017م) وشبوة (عام 2018م).
و ذكر تقرير غير رسمي أن إجمالي حالات الحصبة المشتبه و المسجلة بنظام الرصد الإلكتروني للإنذار المبكر بوزارة الصحة في عدن عام 2021م تقدّر ب 1553 حالة حصبة توفي منها 9 حالات، بينما ارتفعت حالات الحصبة خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2022م الى 6210 حالة و نتج عنها 64 وفاة في 13 محافظة، 26 % من حالات الحصبة حدثت في مدينة عدن. ومن المديريات الأكثر تأثراً بمرض الحصبة عام 2022م مديريات الشيخ عثمان (493 حالة)، مديرية الحد (384 حالة)، المنصورة (271 حالة) و مدينة المكلا (267 حالة) و تشير البيانات إلى أن 73 % من حالات الحصبة استهدفت الأطفال دون الخامسة من العمر و أن 75 % من المصابين غير مطعمين بلقاح الحصبة. وفي تقرير أخر تم رصد 648 حالة اشتباه بالحصبة في العام 2022م بمناطق وادي وصحراء حضرموت أغلبها بمدينة سيئون كما تم رصد 113 حالة اشتباه بالحصبة، خلال أول أسبوعين من شهر يناير لعام 2023م، تزامن رصد البيانات أعلاه مع رصد بيانات مشابهة من موقع وزارة الصحة العامة والسكان في صنعاء الذي أشار إلى ارتفاع حالات الحصبة عام 2022م إلى 18,597 حالة توفي منها 131 حالة.
و تفيد تقارير منظمة الصحة العالمية أن التمنيع ضد الحصبة ساهم في خفض الوفيات الناجمة عن الحصبة على الصعيد العالمي انخفاضاً بنسبة 73 % (من 53600 في 2000 إلى 142000 في عام 2018، بينما كشفت كثير من التقارير الدولية ومنها تقارير منظمة الصحة العالمية أن تدهور الوضع الوبائي لمرض الحصبة عالميّاً عام 2020م وما بعده يعزو إلى جائحة كوفيد-19 وما سببته من الإغلاقات وتوقف الخدمات الصحية الأساسية، لكن الوضع في اليمن مختلف ومخيف وبائيا، لتداخل عوامل متعددة ضمن السياق الصحي والاجتماعي والإنساني.
الوضع الإنساني في اليمن يوصف بمعدلات مرتفعة من انعداد الأمن الغذائي ومعدلات مرتفعة لسوء التغذية الحاد والمزمن بالإضافة إلى تزايد أعداد النازحين إلى أكثر من 4 ملايين نازح إلى عدد من المحافظات ومنها مأرب وعدن فقد وصلت مستويات الهزال بين الأطفال دون الخامسة من العمر إلى مستوى خطير (10-15 %) أو مستوى حرج (15 %)كما وصلت مستويات التقزم إلى 45 %.13 ومعروف ارتباط التعرض لمرض الحصبة بسوء التغذية وظروف النازحين واللاجئين.
من المعطيات أعلاه، تظهر أسئلة أخرى لاستكشاف الروابط الوبائية لوباء يتم مكافحته بلقاح فعّال و مازال ينتشر جغرافياً كإصابات و وفيات في كل ربوع اليمن:
- هل الانتشار الوبائي المستمر للحصبة في اليمن ضمن سياق الانتشار العالمي والإقليمي أم له محددات محلية؟
- هل تجدد أوبئة الحصبة تعزو للقاح نفسه أو للفيروس أو لصعوبات برامجية تواجه البرنامج الوطني للتحصين الموسع وبرنامج الترصد؟
- هل هناك معوقات اجتماعية أو ثقافية تمنع الاستفادة من فرص التطعيم أو أن تنقل النازحين واللاجئين عبء إنساني لا مفر من استيعاب نتائجه الوبائية؟
صحيح أن الحصبة تنتشر في كثير من دول العالم منها المتقدمة لكن لديها برامج قوية لاحتواء الأوبئة كما أن فرضية تأثر أنظمة التحصين الوطنية بجائحة كوفيد-19 هو تأثّر مؤقت ولا يمكن أن يؤدي الى تراكم أجيال غير ممعنة خلال فترة الاغلاق التي لم تتجاوز حتى السنتين، كما ان اوبئة الحصبة مستمرة في اليمن حتى قبل ظهور جائحة الكوفيد-19، فهو ليس في السياق العالمي او الإقليمي للوباء ولكن يتماهى مع الوضع الوبائي في الدول التي تعيش أوضاعا إنسانية وحروب (الصومال مثالاً).
ومرض الحصبة يظهر وبائيا عند تراكم الأجيال غير المحصنة بلقاح الحصبة أو من المناعة الطبيعية، وفي حالة ضعف التغطية الروتينية بلقاح الحصبة (حوالي 50 %) فإن تراكم الأجيال غير ممنعة يكون سريعا وتظهر الأوبئة في كل منطقة أو مديرية كل سنتين أو أقل. و فيروس الحصبة من الفيروسات الأكثر استقراراً و لا تؤثر عليه التحورات. فالفيروس هو الفيروس منذ قبل انتاج لقاح الحصبة مما يعطي اللقاح فعالية أكثر اذا أعطي على شكل جرعتين. و لكون الإصابة بمرض الحصبة تعطي مناعة طبيعية مدى الحياه فأن ظهور الحصبة يمثل حالات جديدة غير محصنة لا باللقاح و لا بالمناعة الطبيعية، و رغم ضعف التشخيص المخبري لمرض الحصبة باليمن فإن أغلب الحالات المسجلة في نظام الترصد في اليمن هي حالة مشتبهة و معتمدة على التشخيص السريري و هو ما يخلط في التشخيص النهائي مع الحصبة الألمانية و أمراض أخرى و إلى أن يتعزز الرصد المخبري لمرض الحصبة في اليمن فأن البيانات المتواترة عن تفشي مرض الحصبة في أكثر من محافظه تؤخذ في الاعتبار بشكل جدي تماهيا مع تجدد الانتشار العالمي و الإقليمي لحالات مؤكدة مخبريّاً أصابتها بالحصبة.
البرنامج الوطني للتحصين الموسع لديه من الخيرات الكافية على مدى ثلاثين عاما في إدارة العمليات الميدانية للتطعيم عبر آلياته المختلفة من برنامج روتيني وحملات وأنشطة خارج الجدران والتواصل مع المجتمع مما يدل أنه لا توجد معوقات برامجية جوهرية. لكن تبقى المشكلة في ضعف التغطية الروتينية بلقاح الحصبة (الجرعة الأولى) ورغم التقارير الرسمية تسجل في أحسن الأحوال معدل التغطية بـ 68 % وهي نسبة ضعيفة لكن دراسة أخرى نشرت في مجلة "لانست" عام 2016م قدرت التغطية الروتينية بلقاح الحصبة في اليمن بأنه لا يتجاوز الـ 46 %.16 وهو مؤشر يؤهل حدوث وبائي لمرض الحصبة يشكل مستمر، فاحتواء أوبئة الحصبة في اليمن يتطلب أولا تطعيم غير الملقحين وهم يشكلون حوالي 40 - 50 % من الأطفال في عمر 9 أشهر إلى سنة وتطعيم من لم يُطعَّم بعمر أكثر من سنة. وقد نفذت وزارة الصحة العامة والسكان حملة تطعيم في عام 2022م استهدفت الأطفال من عمر 6 أشهر إلى عشر سنوات في بعض المحافظات والمديريات لكن الوباء مازال مستمراً، فهل تم الوصول للفئة المخفية في المجتمع وهم غير المطعمين إطلاقاً لأسباب عدم الاقتناع أو التردد استجابة للشائعات حول اللقاحات التي انطلقت مع جائحة الكوفيد-19؟
ثلاثة استنتاجات وبائية حول تفشي الحصبة في اليمن يمكن التقاطها بالإضافة إلى تخوّف ميداني واحد، الأولى حدوث الحصبة في المدن الكبيرة مثل عدن والمكلا و هو ينفي أي مشاكل برامجية حيث توفر الخدمات الصحية و سهولة الوصول، و الثانية انتشار الحصبة بشكل أساسي بين الأطفال دون الخامسة من العمر و أغلبهم غير مطعمين مما يدل على التراكم السريع للمعرضين للمرض، و الثالثة حدوث وفيات بين المصابين من مرض الحصبة في أكثر من محافظة و هو مؤشر للوضع الخطير الذي وصل إليه الوباء.
التخوّف الميداني أن تكون حملات التطعيم استهدفت المطعمين أصلاّ ولم تقلص الفجوة لدى غير المطعمين الذين هم قنبلة موقوتة لتفشٍ آخر للوباء وما حدوث الأوبئة في المدن إلا أحد مؤشراته.
تردد الآباء والأمهات أو معارضتهم لتطعيم أطفالهم بأي لقاح لأسباب دينية، ثقافية اجتماعية أو إعلامية وأحياناً لمبررات غير علمية واهية لن يزيد من نسبة التغطية في الحملات أو التطعيم الروتيني حتى لو كانت الخدمات الصحية بالقرب من مساكنهم والإعلام الصحي يصل إلى مسامعهم، مشكلة التردد والامتناع عن التطعيم أصبحت ظاهرة عالمية تحتاج إلى وسائل إبداعية ومجتمعية وليس الاقتصار على جهود وزارة الصحة العامة لأنها تكاد تكون ظاهرة رأي عام.
خصوصية اليمن تتمثل في الوضع الإنساني الاستثنائي المتمثل في انعدام الأمن الغذائي وعدم الاستقرار المعيشي مما تأخذه الأُسر كأولوية قصوى قبل الاهتمام بحملات التطعيم والتثقيف العقيم.
أتمنى أن يكون هناك تقييم لمدى استجابة غير المطعمين لجهود وزارة الصحة في كل مديرية للتطعيم ضد الحصبة جرعة أولى (أولاً) وجرعة ثانية (ثانياً) وتغطية النقص في تطعيم الأطفال الكبار (ثالثاً) وتوجيه برامج انتقائية لهذه الفئات بأي وسية مقنعة لاحتواء أوبئة قادمة.
"أستاذ طب المجتمع / جامعة حضرموت"
المراجع:
1. Vaidyanathan G. Massive measles outbreak threatens India’s goal to eliminate disease by 2023. Nature, News. 2022. Available at: https://www.nature.com/articles/d41586-022-04480-z Accessed 28.1.2023
2. CDC. Measles cases and outbreak. Available at: https://www.cdc.gov/measles/cases-outbreaks.html Accessed in 28.1.2023
3. UK Health Security Agency. Measles in England. Available at: https://ukhsa.blog.gov.uk/ Accessed in 28.1.2023
4. World Health Organization. Global Measles and Rubella Update. November 2018. Available online: https://www.who.int/immunization/monitoring_surveillance/burden/vpd/surveillance_type/active/GlobaG_MR_Update_November_2018.pdf?ua=1
5. Pacenti, M.; Maione, N.; Lavezzo, E.; Franchin, E.; Dal Bello, F.; Gottardello, L.; Barzon, L. Measles Virus Infection and Immunity in a Suboptimal Vaccination Coverage Setting. Vaccines 2019, 7, 199. https://doi.org/10.3390/vaccines7040199
6. South Africa' measles outbreak: part of global issue. https://epicentre.org.za/2022/11/23/africa-measles-outbreak-epi/?gclid=Cj0KCQiAic6eBhCoARIsANlox87t_5WZQpl0GfVscn8OycJgu9lvlGd2K73aiFM-DF9j42vnT_PZz1QaAn-9EALw_wcB accessed 28.1.2023
7. WHO. UNICEF and WHO warn of perfect storm of conditions for measles outbreaks, affecting children. Available at: https://www.who.int/news/item/27-04-2022-unicef-and-who-warn-of--perfect-storm--of-conditions-for-measles-outbreaks--affecting-children Accessed 28.1.2023
8. Nassar AA, Al Amad MA, Qasim M, Dureab F. Risk factors for measles outbreak in Ataq and Habban districts, Shabwah governorate, Yemen, February to May 2018. BMC Infect Dis. 2021; 21: 551. doi: 10.1186/s12879-021-06207-3
9. المشاهد نت. تزايد الإصابة بمرض الحصبة في حضرموت. متاح بتاريخ 28.1.2023م في: https://almushahid.net/110252/
.10. وزارة الصحة العامة و السكان ظ اليمن (صنعاء). وزارة الصحة تدعو المنظمات الدولية لدعم مواجهة الأوبئة.
متاح بتاريخ 28. 1 .2023م في: https://moh.gov.ye/news_details.aspx?id=1744
2. CDC. Measles cases and outbreak. Available at: https://www.cdc.gov/measles/cases-outbreaks.html Accessed in 28.1.2023
3. UK Health Security Agency. Measles in England. Available at: https://ukhsa.blog.gov.uk/ Accessed in 28.1.2023
4. World Health Organization. Global Measles and Rubella Update. November 2018. Available online: https://www.who.int/immunization/monitoring_surveillance/burden/vpd/surveillance_type/active/GlobaG_MR_Update_November_2018.pdf?ua=1
5. Pacenti, M.; Maione, N.; Lavezzo, E.; Franchin, E.; Dal Bello, F.; Gottardello, L.; Barzon, L. Measles Virus Infection and Immunity in a Suboptimal Vaccination Coverage Setting. Vaccines 2019, 7, 199. https://doi.org/10.3390/vaccines7040199
6. South Africa' measles outbreak: part of global issue. https://epicentre.org.za/2022/11/23/africa-measles-outbreak-epi/?gclid=Cj0KCQiAic6eBhCoARIsANlox87t_5WZQpl0GfVscn8OycJgu9lvlGd2K73aiFM-DF9j42vnT_PZz1QaAn-9EALw_wcB accessed 28.1.2023
7. WHO. UNICEF and WHO warn of perfect storm of conditions for measles outbreaks, affecting children. Available at: https://www.who.int/news/item/27-04-2022-unicef-and-who-warn-of--perfect-storm--of-conditions-for-measles-outbreaks--affecting-children Accessed 28.1.2023
8. Nassar AA, Al Amad MA, Qasim M, Dureab F. Risk factors for measles outbreak in Ataq and Habban districts, Shabwah governorate, Yemen, February to May 2018. BMC Infect Dis. 2021; 21: 551. doi: 10.1186/s12879-021-06207-3
9. المشاهد نت. تزايد الإصابة بمرض الحصبة في حضرموت. متاح بتاريخ 28.1.2023م في: https://almushahid.net/110252/
.10. وزارة الصحة العامة و السكان ظ اليمن (صنعاء). وزارة الصحة تدعو المنظمات الدولية لدعم مواجهة الأوبئة.
متاح بتاريخ 28. 1 .2023م في: https://moh.gov.ye/news_details.aspx?id=1744