دراسة: حرب 2015 أثبتت أن الجنوب عنصر توازن استراتيجي في المنطقة

> إعداد/ مركز عدن للرصد والدراسات:

>
  • علاقة الجنوب بالدول الشقيقة المتدخلة في العملية السياسية
  • حرب 94م وضعت الجنوب أمام خيارات لمقاومة الاحتلال
  • وضع اليمن وصل حالة الاستعصاء العسكري والفشل السياسي
  • مصلحة دول الجوار والإقليم تكمن في جنوب قوى خال من الانقسامات
من الطبيعي أن تنجم عن ما يدور حاليا من جهود ومبادرات وتصورات من قوى محلية وإقليمية ودولية، ردود فعل من أطراف أخرى تشعر بالإقصاء والتهميش وتنتابها شكوك ومخاوف من أن الصفقة القادمة ستكون على حسابها، وهي مخاوف تعد مشروعة ولها ما يبررها سواء في تجارب الماضي وطبيعة العلاقات التي سادت بين الدول العربية طوال العقود الماضية من عمر النظام الرسمي العربي أو مما يجري حاليا.

وعليه سوف تتناول هذه الورقة بتركيز شديد هذه المسألة لإدراكنا لما تتسم به من تعقيد وحساسية وما يرتبط بها من تجارب مريرة لدى هذا وذاك.

والواقع أن حساسية المسالة والمعوقات التي تعترض أي جهد أو عمل يستهدف البحث العلمي والموضوعي لحالة العلاقات العربية - العربية، أكانت الرسمية أو الشعبية، يعتبر أكثر تعقيداً من واقع العلاقات نفسها، والتي طغت عليها مظاهر الاختلاف والتأزم، والخصومة والفشل، والعجز عن الاستجابة للمصالح والتطلعات الوطنيَّة لكل دولة، والقضايا والتحديات المشتركة لكل الدول والأمة العربية بأسرها.

لقد استنزفت الحروب والصراعات العربية - العربية من الطاقات والقدرات أكثر مما صرف في صراعات الأمة وحروبها مع أعدائها، وفي الدفاع عن القضايا المشتركة وأمن الأمة ومصالحها العليا.

وعلى الرغم مما آل إليه الوضع العربي العام، وما أصاب بعض مكوناته، ومما يواجهه اليوم من تحديَّات وجوديَّة شاملة، وعما شهدته الساحة الدوليَّة والنظام الدولي من متغيرات جذرية ستطال حتما المنطقة العربية كما غيرها، لا يلمس وجود توجهات عامة وقناعات جماعيَّة وإدراك بأهمية وأولوية العمل الجماعي على أساس رؤى عصرية تستشرف المستقبل وتنتشل الوضع مما يعيشه اليوم، الذي يمكن تلخيصه في البعدين التاليين:

البعد الأول: كان من الطبيعي والمنطقي أن تؤدي الروابط والعوامل التاريخية، والجغرافيَّة، والدينية والثقافيَّة، والاجتماعيَّة، والبيئيَّة، والديمغرافيَّة، والاقتصاديَّة والأمنيَّة، إلى وجود علاقات وروابط راسخة ومستدامة ومتنامية، بتوجهَّات استراتيجيَّة تحقق الجمع السليم بين ما هو وطني وما هو عام ومشترك.

البعد الثاني: تدل الحقيقة المرة على أن الأمور قد سارت على غير ذي هدى، بما ترتب عليها من نتائج كارثية وهدر لمقدرات وثروات الأمة ومصالحها وزمن طويل من عمر شعوبها. وترتب عليها هزات وعواصف شديدة ومخاطر جمة وتحديات هائلة، تحولت معها المنطقة إلى ساحة مفتوحة للأطماع والتدخلات الخارجية وحروب وصراعات طائفية واجتماعية عداء عن ظواهر الإرهاب والفوضى والفشل في التنمية والإصلاحات السياسية والمؤسسية وغيرها.

نشير بالتفصيل إلى ما شهدته اليمن جراء اختلال التوازن الاستراتيجي الذي نجم عن قرار الوحدة الاندماجية للدولتين "الارتجالي والفاشل"، وفاقمتها حرب 1994م التي قادت إلى احتلال الجنوب، وحولته من طرف رئيس وشريك في مشروع بناء دولة الوحدة إلى مهزوم وضحية لعدوان عسكري غاشم ولأسوأ احتلال عرفه التاريخ، وكان من نتائج تلك الحرب أنها وضعت الجنوب أمام تحديات وخيارات جديدة دفعته إلى مقاومة الوضع الاحتلالي الذي ترتب على الحرب بما فيها إسقاط مشروع الوحدة الذي قام على الشراكة والحياة السياسية السلمية والتعددية ونشوء القضيَّة الجنوبيَّة، والمقاومة الجنوبيَّة، واندلاع حرب شمال الشمال، وصراع قوى الحكم، وصولًا إلى انقلاب سبتمبر 2014م، وإعلان الحرب الثانية على الجنوب في 21 فبراير 2015م، وتشكيل التحالف العربي الذي أطلق عاصفة الحزم، وانطلاق حرب الثمان سنوات، والانتصار جنوبًا، بدعم التحالف العربي، وبسط سيطرة الحركة الحوثيَّة على صعيد الشمال، واهتراء وتصدّع وتآكل منظومة الحكم، ودخول الوضع في حالة من الاستعصاء العسكري، والفشل السياسي، والدولة الفاشلة.

لقد كانت سنوات ما بعد حرب 1994م على الجنوب عبارة عن حروب متناسلة وصراعات مسلحة وثورات وانقلابات ومقاومة وتدخلات خارجية سلمية ومسلحة.

مكانة الجنوب وعلاقاته بأشقائه في الدول المجاورة:

في بداية تناولنا لهذه المسألة الهامة نحب التأكيد على الأهمية التي يحتلها الجنوب ومكانته ودوره الذي يشكل عنصر توازن استراتيجي في المنطقة، وقوة يمكن الثقة بها والاعتماد على دورها، كما برهنت التجربة الحيَّة طوال سنوات الحرب والصراع، وهو الأمر الذي يدعو أصحاب القرار إلى تقدير هذه الحقيقة وتجنب الاستهانة بالجنوب أو التقليل من دوره.

الحديث عن الجنوب يعني مجتمعا وشعبا له قضيته الوطنية، وتطلعاته السياسيَّة المعروفة، والذي يعتز بتاريخه، وبمقاومته السلميَّة والمسلحة.. شعب وكيان ومشروع مستقبلي يتعرض للاستهداف، للحرب، للتجزئة، للإضعاف، للاحتواء والتهميش، والضم والإلحاق، وللتوظيف في قضايا ليس له فيها لا ناقة ولا جمل.

لا يريد الجنوب أن يكون عبئًا على أشقائه، ولا مصدرًا لخطر يستهدفهم، ويأمل أن يبادله الأشقاء نفس المستوى من الحرص والقناعات، والشعور بالمسؤوليَّة والواجب.

من الضرورة بمكان أن تدرك القيادات والنخب الجنوبيَّة أن للدول الشقيقة مصالح وتحالفات مع أكثر من طرف، ولها طائفة واسعة من الاهتمامات، وتشكل قضيَّة الجنوب ومستقبله واحدة منها؛ ولذلك لا يمكن لأحد أن يطلب منها أو يتوقع أن تضحي بكل ما لها وما يهمها في سبيل قضيَّة الجنوب، ومنطق الأشياء يقول إنها ستقف مع الجنوب بالقدر الذي يخدم مصالحها وشؤونها واهتماماتها الأخرى، بما فيها الأمنية. بمعنى ستبني مواقفها على ضوء حسابات دقيقة للمكاسب والخسائر، ولا يمكن لكل من يفكر بحس سياسي أن يتوقع منها أو يطالبها بمواقف خارج هذه الحسابات.

في النظر للمسألة من زاوية أخرى، لا بد للأشقاء (حكومات وشعوب ونخب) أن يدركوا أن ليس للجنوب غير قضيته الوطنية، وتطلعات شعبه المشروعة في الحرية والحياة الكريمة، والخلاص من الاحتلال وخطر الضم والإلحاق، وحقّه في قيام دولته الوطنية والعيش في أمن وسلام. وبالتالي ليس ممكنًا ولا مسموحًا، أو مقبولًا أن يطلب منه أو يضغط عليه للتنازل عن هذه الثوابت الوطنية الأساسيَّة، والقضايا والأهداف المصيريَّة، التي يتوقف عليها حاضره ومستقبله، فالبديل للحريَّة هو العبوديَّة. وعندما يتعلق الأمر بالحريَّة والكرامة والحق في وطن، تسقط الدعوات لاتباع المرونة، والتنازلات، وأنصاف الحلول، التي تجرع مرارتها، وكلفته الغالي والنفيس، ومعاناة وتضحيات لا حدود لهما، ومن الطبيعي القول إن يأخذ الجنوب بعين الاعتبار في علاقاته مع الأطراف الأخرى حقيقة مواقفها وسياساتها تجاه الجنوب وتطلعات شعبه.

ولاريب في أن الإقرار بأن العلاقات المنشودة بين الجنوب وأشقائه لا تعني تطابق المصالح والرؤى والمواقف إزاء الأمور التفصيليَّة، ولا انتفاء للتباينات والاختلافات، والتي يجب أن توضع في إطارها ومستواها، مع الحرص المشترك على ألا تؤثر على العلاقات الثابتة والراسخة، والمواقف تجاه القضايا والتحديَّات الأساسيَّة والمشتركة، وأن لا تتحول إلى عداء وخصومة.

تتطلب عمليَّة التأسيس لعلاقات تشاركيَّة استراتيجيَّة؛ التخلص من نزعة الانعزال، والشك تجاه الآخر، والمبالغة في الادعاء باستقلاليَّة الإرادة والقرار، والمصلحة تقتضي الحرص على الاحترام المتبادل، والتخلص من ممارسات تشعر الآخر بالدونيَّة، والتبعيَّة والمتلقي للأوامر ليس إلا.

يتوقف استمرار العلاقات وتطورها على المراعاة الدقيقة لمصالح كل الأطراف، والتوازن، وتقدير أن كل طرف مساءل من قبل جماهيره ومؤيديَّه، وكل من يمثلهم ويعبر عن مصالحهم، وإن أي انحراف أو خطأ سيقود إلى نتائج وخيمة، وأضرار يصعب إصلاحها.

ومن بديهيَّات علاقات التحالف أن يحرص كل طرف على عدم تبني أو تأييد مواقف وأعمال وسياسات تلحق الضرر بمصالح وحقوق الطرف الآخر، عوضًا عن أن يؤيدها أو يدافع عنها، ومن البديهي أيضا أن يتطلع الجنوب لمواقف داعمة ومنصفة من أشقَّائه، بما فيها إطلاق مبادرات تطور العملية السياسية، وتسد الثغرات التي اكتنفت المبادرة الخليجية، والقرارات الأممية، واتفاق الرياض وإعلان نقل السلطة.

المطلوب أن تقف إلى جانب قيادة المجلس الانتقالي الجنوبي التي برهنت على وفائها وإخلاصها لمتطلبات العلاقات والتحالف مع امتها، واعتبرتها توجُّهًا استراتيجيًّا وخيارًا لا رجعة عنه.. من الواجب والمصلحة تقديم كل ما يساعد على تعزيز مكانة الانتقالي ودوره، والإقرار بأن أي ممارسة أو ضغوط قد تؤدي لإضعافه والحد من مكانته سوف تخدم قوى ومشاريع أخرى تدميريه سوف تلحق الضرر بالمنطقة باسرها.

وفي كل الأحوال وتحت كل الظروف، فإن الجنوب لن يقبل بأي قيادة من داخل منظومة الاحتلال، وليس معني بالتمييز بين من احتله عام 1994م ومن كرر ذلك عام 2015م، ولن ينقاد أو يسير وراء من يتبنى مشاريع وحلول تؤبد الاحتلال وقواه ورموزه.

ومن مصلحة الدول الشقيقة والمجاورة أن يكون الجنوب قويًّا وموحدًا، متعايشًا مع نفسه ومع جواره، وأن يشكل عنصر قوَّة لأشقائه، وليس عبئًا عليهم، ولا نقطة ضعف يسهل اختراقها والانطلاق منها لتهديد أمن بلدانهم.

كان من الطبيعي أن يقام ومن وقت مبكر حوار سياسي بين القيادات السياسية الجنوبية مع أشقائهم من المؤسسة السياسية في المملكة العربية السعودية والدول الأخرى، وأن تقام العلاقات على توافقات سياسية حول الحاضر والمستقبل، وقد آن الأوان لإخراج هذه العلاقات بين الطرفين من الدائرة الأمنية الضيقة إلى رحاب المؤسسات السياسية، ومن واجب كل طرف أن يعمل على حماية العلاقات بين الطرفين من تأثير وتدخل أطراف أخرى لا تروق لها.

ثمَّة فرصة مهمة وواعدة تتمثل في التقاء كل القوى والجماعات والرموز الجنوبية على موضوع العلاقة مع المملكة والإمارات والدول الأخرى، وهو عامل رئيس يؤهل هذه الدول على القيام بدور إيجابي ومؤثر على صعيد الحوار والتوافق الجنوبي، وسيجعلها محل قبول مجتمعي عام، ومن واجبها تقديم النصح والمشورة للقيادات الجنوبية.

من الأهمية بمكان أن يدعم ويشجع صناع القرار في الطرفين، المبادرات والإسهامات المجتمعية، ومن كل أصحاب الاختصاص والمصالح، والنخب، وصناع الرأي، والشرائح والجماعات النوعية.

نثق ثقة كاملة أن العمل بهذه المنطلقات القابلة للمراجعة والتطوير؛ سوف يفيد كل الأطراف المعنية، ولن ينتقص من مكانة أي منها، والتي من شأنها ان تدفع بجهود التسوية والسلام، واستعادة التوازن الاستراتيجي الذي انهار عام 1990م، ومن مصلحة الجميع الحيلولة دون عودة الانقسامات والاستقطابات التي شهدتها المنطقة ابان الحرب الباردة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى