مثقف لا أكثر ولا أقل.. هذا ما يحتاجه العالم العربي

> حكيم مرزوقي/ كاتب تونسي

> ​هل يتقاعد المثقفون والفنانون فعلا، مثلما يتقاعد العمال والموظفون والحرفيون، وأصحاب أي مهنة تأخذ من أعمار أهلها وتصيبهم بالسأم فينبرون للراحة بعد سنوات العمل مسلّمين المشاعل إلى جيل جديد؟

هل للعمل الإبداعي سن ينبغي التوقف عندها، ومن ثم الالتفات إلى نشاطات مجاورة وذات صلة بالشغف الأول كما هو الحال لدى الرياضيين حين يصبحون محللين أو مدربين، والضباط المتقاعدين، حين ينتهي بهم الأمر إلى خبراء إستراتيجيين؟

القاعدة المتعارف عليها أن المبدعين مثل الثوريين في الأدبيات اليسارية، لا يتقاعدون، بل يزداد بريقهم كذهب عتيق، لكن كم زعيما ثوريا استمات في منصبه حتى صار دكتاتورا شرسا، وكم من مبدع جفت قريحته وظل يعتقد أنه النجم الذي لا يعرف الأفول.

لنمض قليلا في هذه المقاربة بين “عمداء الأدب والفكر” و”عمداء العسكر والقيادة”، وبالاعتذار من طه حسين، الذي لم يطلق تلك التسمية على نفسه، بقدر ما أطلقتها المرحلة ومزاجها العسكري في مصر الستينات.

يمضي العسكري في تعنته ومسكه بالعصا الماريشالية إلى أن تطيح به ثورة أو انقلاب، وكذلك يمضي المثقف العربي في التمسك بوهم الريادة، إلى أن يتفطن إلى جيل جديد من الكتّاب والمنشغلين بالفكر.

  • عقلية خارج الإبداع

ساعتها، لا يصدّق الجنرال ما يحصل، ويخال الأمر مؤامرة مدبرة بطبيعة الحال، تماما كما يحصل على أرض الواقع في البلاد التي تتناوب على الحكم فيها الدكتاتوريات العسكرية.

هذا ما يدور تقريبا، في الساحة الأدبية والفنية العربية المحكومة بنفس العقلية، إذ لا يعتقد أي طرف ثقافي بمبدأ “التناوب السلمي على السلطة” كما هو الحال في الأعراف الديمقراطية.

الأمر هنا طبيعي ولا يُستغرب من مأتاه، ذلك أن من يغتصب السلطة لا يعترف بشرعية من سوف يأتي من بعده. وقس على ذلك في مجالات الفكر والأدب والفن.

هي حالة تدعو إلى السخرية والضحك، وما الأمر الذي جعلنا نزج بأنفسنا في هذه المقاربة إلا مدى قربها من الواقع السياسي والاجتماعي، وحتى القائدي في المؤسسات الدينية، فمن من رؤساء اتحادات الكتاب والنقابات الفنية وعمادات الكليات في الأنظمة الشمولية والعسكرية، لم تنصبه السلطة أو تزكيه على الأقل؟

إذا اعترفنا بأن غالبية المثقفين المشرفين على المؤسسات الرسمية ومراكز البحوث في دول عديدة من العالم العربي، نصبتهم الحكومات والأحزاب المهيمنة، نكون قد اعترفنا بنصف الحقيقة التي لا تقبل الجدال.

أما النصف الثاني من هذه المعادلة فهو حقيقة أن المثقف العربي يؤمن بمبدأ المحاباة والتوريث والزعامة والعمادة المزمنة، على غرار ما يحدث في الخارطة السياسية والأعراف القبلية، لذلك فهو لا يعترف بالمنافسة الإبداعية، ويعتبر أن ما تميز به يوما حالة سرمدية خالدة يجب أن يموت عليها.

المسألة إذن تتعلق بعقلية لا علاقة لها بالإبداع الذي يمثل بطبيعته سوقا تتسع لمئات الدكاكين المتنوعة والزبائن القراء والمتابعين، بل بممارسة نرجسيته في القدرة على السيطرة والزعامة في أقصى وقت ممكن.

المثقف الأوروبي يرضى بالتنحي، ويقبل بالهزيمة ويقر بالترهل وتبدل المرحلة، لكن نظيره العربي في شرقنا المضطرب، يعتقد أن عبارة “مثقف” تعني المتميز والمحظوظ دائما.

نماذج كثيرة وكاريكاتيرية عرفتها الساحة الفنية والعربية في هذا المجال، على غرار اتحادات الكتاب والنقابات الفنية والعمادات الأكاديمية وغيرها، حتى صارت كلمتا “مثقف” أو “فنان” تعنيان وظيفة مهنية تتطلب ما تتطلبه من مستحقات وتبعات كالجراية والمعاش التقاعدي، وغير ذلك من مسائل كان الأجدر بها أن تتعلق بحقوق المواطنة في الدولة المدنية، وليس بفكرة أن فلانا كان “مثقفا” وعلينا أن نعترف له بجميل فعله على حساب دافعي الضرائب.

  • على صفيح ساخن

ما يقدمه الفرد من منجز إبداعي هو محل تقدير بلا شك، وقيمة مضافة إلى رصيده، وهو أهل للتبجيل، لكن هذا لا يعني أن يعيش فوق القانون لمجرد أنه مدلل من طرف هذه السلطة أو تلك، أو كذلك، وبالمقابل، يقضي العمر منبوذا بسبب خصومته مع السلطة واختلافه معها.

يا “جماعة الخير”، العمل في المجال الثقافي ليس امتيازا، ولا عيبا طبعا، كما يسخر السوقة منه في بلادنا، وإنما هو شأن يُحترم عليه المرء بقدر كفاءته، تأثيره في الناس، وقدرته على كسب ودهم واحترامهم.

لم نشاهد مثقفا أوروبيا يوما، معفى من دفع الضرائب، ولا معاقبا بسبب معارضته للحكومة، ولا أيضا محبوسا في سجن أو ينعم في قصر منيف، إلا بمقدار جهده وما أتاحت له مبيعات كتبه وأعماله.

خلصونا من هذا الداء العضال المتمثل في شيطنة المثقف أو تأليهه. إنه مثقف لا أكثر ولا أقل، وجل ما يصبو إليه أن يُكافأ على صنيعه وألّا يُعاقب على اختلافه.

ويبقى السؤال الذي بدأنا به هذه المطارحة قائما، وهو: هل يجوز للمثقف أن يتقاعد أو يستقيل أو يعتزل أو يمل؟ وهل يجوز أن يقع توظيفه واستخدامه أو نفيه وإقصاؤه؟ أم أن المثقف الذي ننشده ونبحث عنه يندر وجوده أصلا؟

يقول مثل عامي متداول في العالم العربي “أين تضع نفسك تصيبها”، وهو موجه بالدرجة الأولى إلى المثقف العربي الذي أمسى على صفيح ساخن: إما الإخلاص لهذا الرأس الذي يحمله بين كتفيه والإجابة على أسئلته بصدق وتحد أو الإذعان لإرادة ورغبات من أرادوا احتواءه وتسخيره.

أما بالنسبة إلى موضوع التقاعد الفني والفكري، فهو أمر حاصل، جائز ومشروع بالنسبة إلى من فقدوا البوصلة والقدرة على التفاعل مع ما يستجد من أحداث. وكما قال الكاتب الجزائري الذي أضرب يوما عن الكتابة “لا تطرقوا بابي كل هذا الطرق، إني لم أعد أسكن هنا”.

العرب

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى