طقوس العيد تنهك حال اليمنيين

> أحمد الأغبري:

> ​صنعاء- “القدس العربي”: في الوقت الذي لم يتجاوزوا فيه بعد التزامات رمضان يجد اليمنيون أنفسهم في مواجهة ثلاثية العيد القاهرة ممثلة في (ملابس الأطفال والجِعَالة والعَسْب) والتي تُنهِك حالهم مع اقتراب عيد الفطر؛ ما يجعلهم يضاعفون من الكد لتوفير ما يمكن توفيره، بل إن بعضهم يقول في نفسه “ليته يتأخر” والبعض يكتفي بكعك العيد كأقل القليل.

لم يجد نايف (56 عاما) حلا لتوفير ملابس لأطفاله وشراء جِعَالة العيد وتوفير العَسْب سوى أن يعمل أكثر من 15 ساعة يوميًا طوال أيام رمضان على دراجته النارية بصنعاء لتوفير ما يمكن توفيره من التزامات عائلته للعيد بجانب مستلزمات رمضان. «من حسن حظي أن لدي مُتّر (دراجة نارية)، على الرغم من أن العمل صار ضعيفا للغاية، لكني استطيع من العمل معظم يومي توفير مبلغ الفين ريال أو أحيانا ثلاثة الاف (ستة دولارات) بجانب مصاريف العائلة اليومية والحمدلله استطعتُ شراء ملابس الأولاد وشراء جِعَالة العيد وتبقى لي توفير فلوس العَسْب».

اضطر (نايف) لشراء ملابس أطفاله من محلات البيع بسعر موحد باعتبارها المتاحة بأسعار زهيدة تبيع ملابس جديدة؛ وإن كانت هذه الملابس سريعًا ما تتلف لانخفاض جودتها ومضي فترة طويلة على صناعتها. يقول نايف: «لا أستطيع شراء الملابس من المحلات الأخرى؛ لأن وضعي لا يسمح؛ لكني مُطمئن لسعادة أولادي بملابس العيد هذه، وإن كانت بدلة واحدة لكل منهم».

أما جِعَالة العيد فقال نايف إنه اشترى كيلوغرام زبيب مستوردا لعدم قدرته على شراء زبيب محلي بالإضافة إلى كيلوغرام من الشوكولاته. يقول «كنت قبل الحرب اشتري 3 كيلوغرامات من الزبيب المحلي وكيلوغراما ونصف من المكسرات ومثله شوكولاتة بجانب الكعك أما اليوم (يصمت) … الحمدلله فأنا أفضل من غيري».

وبالفعل نايف أفضل حالاً من غيره؛ فمعظم اليمنيين يجدون أنفسهم قبيل حلول عيد الفطر المبارك وجهًا لوجه أمام ثلاثية تتطلب جميعها مالاً، كالتزام عيدي ممثلة في ملابس الأطفال وجِعالة العيد وعَسْبه؛ والاحتياجين الأخيرين يتمثلان في زبيب ومكسرات وشوكلاتة العيد والمعروفة تقليديا بـ “الجَعالة”، والاحتياج الثالث يتمثل في توفير فلوس يتوجب تسليمها للأرحام (عيدية)، وتسمى في مناطق يمنية أخرى بـ “العوادة”.

واعتاد اليمنيون أن يزوروا أرحامهم خلال العيد، وينفحوهن خلال المصافحة مالاً، كل حسب قدرته، علمًا أن هذا المال ليس سدا لحاجة لدى الأرحام، وإنما تقليدا متوارثا يوحي بتجدد المودة؛ وإن كان هناك من اضطر للتوقف عن زيارة أرحامه يوم العيد لعدم قدرته على منحهن المال، وبعضهم اضطر للذهاب للمصافحة بدون مال، بينما تمسك آخرون بإعطاء العيدية.

يحرص يحيى (61 عاما)، وهو سائق حافلة بصنعاء، أن يوفر لأولاده ملابس العيد بقدر معقول مما كان قبل الحرب، لكن ليس كما كان الوضع قبل الحرب، وكذلك يشتري جِعَالة العيد، ولم ينقطع عن زيارة أرحامه، ومنحهن عَسْب العيد.
يقول: «تأثرنا كثيرا بالحرب؛ فأجرة راكب الحافلة مازالت مئة ريال كما كانت قبل الحرب، بينما أسعار البنزين ارتفعت خمسة أضعاف، وبقية الأسعار ارتفعت أضعافا كثيرة.. ومع ذلك نعمل طوال اليوم، لكن الفارق أنه كنا نوفر قبل الحرب ، لكن الآن بالكاد ما نحصل عليه نعيش منه، بما في ذلك متطلبات المناسبات فبالكاد نستطيع توفيرها».

وهناك من أمثال (يحيى)، ممَن يملكون مصادر دخل خاصة، يعيشون حياة لا بأس بها، لكنها ليست كما كانت قبل الحرب؛ فالحرب قد أثرت كثيرًا على نحو سبعين بالمئة من السكان تقريبًا، والبقية لهم مغتربون ينفقون عليهم أو لديهم مصادر دخل من الأعمال في الشركات أو عمل حر.

تُضاعِف المناسبات، وفي مقدمتها الأعياد الدينية من الضغوط الاقتصادية على اليمنيين، مع دخول الحرب عامها التاسع، لاسيما ومعظم الموظفين العموميين بلا مرتبات منذ أكثر من سبع سنوات، الأمر الذي حوّل حياتهم إلى محاولات مستمرة للخروج من مأزق للوقوع في آخر، حتى أصبحت الحياة لمعظمهم كأنها صراع “من أجل البقاء، بل إن كثيرا من اليمنيين يتمنون لو يتأخر العيد حتى يستطيعوا تدبر أحوالهم وترتيب وضعهم قبل حلوله.

يجد شداد (53 عاما)، وهو مدرس في مدرسة أهلية، نفسه ملزمًا ككل الآباء بشراء ملابس العيد لأطفاله الذين يضطرون لارتدائها أيام العيد الخمسة، ومن ثم الاحتفاظ بها لعيد الأضحى كتقليد عادت إليه معظم العائلات اليمنية، لكن (شداد) لم يعد لديه ما يبيع فقد أجبرته الظروف على بيع سيارته ومجوهرات زوجته وبعض أثاث منزله؛ فيضطر لتكثيف نشاطه في رمضان ( وهو من ضمن شهور إجازة الطلاب) في الدروس الخصوصية لطلاب صفي تاسع أساسي وثالث ثانوي باعتبار اختبارات الصفين وزارية وموعدها عقب عيد الفطر، ما يمكنه من توفير متطلبات رمضان والعيد، وعلى الرغم من ذلك يشتري ملابس أبنائه من محلات الأسعار الزهيدة الموحدة، ويضطر لشراء بعضها من محلات بيع الملابس المستعملة.

كذلك الحال مع زميله صلاح (49 عاما) الموظف في وزارة التربية والتعليم منذ أكثر من عشرين سنة أمضاها في العمل مدرسًا؛ ليجد نفسه جراء الحرب بلا راتب، ما اضطره للعمل في المدارس الأهلية والدروس الخصوصية نهاية العام الدراسي، بما يساعده على توفير التزامات معيشة أسرته.

يحاول اليمنيون على الرغم من الظروف القاهرة التي فرضتها الحرب أن يعيشوا ولو بعض تقاليد العيد بأي قدر حرصًا منهم على أن يعيش أطفالهم ولو بعض السعادة، التي يُفترض أن يعيشوها كأطفال؛ ولهذا يحرص (صلاح) على شراء جعالة العيد بالقدر الذي يحقق السعادة لزوجته وأبنائه…يقول: «فيما يخص جِعَالة العيد فأنا أحرص أن أوفر قدر الإمكان ما استطيع من زبيب ومكسرات وفق الحال؛ لأن الجِعَالة مرتبطة حتى بالزائرين، فمن يزورك لا بد أن يجد جِعالة العيد على طاولة استقباله، وجودة الجعالة التي لديك توحي لضيفك بوضعك وحالك، وخاصة أن مَن يزورك يكونون في الغالب أنسبائك؛ ولهذا أحرص أن يكون الوضع مستورا».

يقول الباحث الاقتصادي اليمني، عبدالسلام راجح المقطري، لـ”القدس العربي”: «ليست الأعياد وحدها ما تُضاعف من معاناة الأسر اليمنية، بل جميع مناسبات العام، وبخاصة المدارس التي تتطلب نفقات متوالية طوال العام في ظل وصول معظم الأسر اليمنية إلى ما تحت خط الفقر مع ارتفاع مؤشرات البطالة لمستويات تجاوزت توقعاتنا كاقتصاديين؛ الأمر الذي يجعل الأسرة اليمنية بعد انتهاء العام الدراسي، وبدلاً من أن تتراجع نفقاتها تجد نفسها أمام نفقات أخرى كنفقات رمضان والأعياد…والتي تمثل بالنسبة لها تحديات».

وأضاف: «بلا شك أن المناسبات تُعزز من فداحة العوز الذي تعيشه الأسرة اليمنية؛ لأنها تجد نفسها مُلزمة بتوفير احتياجات فوق قدرتها؛ وبالتالي تكون مُضطرة لتوفير حلول بديلة كشراء ملابس مستعملة أو اللجوء للمحلات التي تبيع بأسعار موحدة، علاوة على لجوء عائلات أخرى ممن ظروفها أفضل إلى شراء ملابس جديدة، لكن بكمية لا تصل إلى ثلاثين بالمئة مما كانت تشتريه قبل الحرب؛ عائلات كثيرة كانت تشتري ملابس لأولادها بحدود ثلاث بدلات بينما الآن تشتري بدلة واحدة، وكثير من العائلات تحتفظ بملابس عيد الفطر لعيد الأضحى».

وأشار المقطري إلى ملاحظة أخرى متمثلة في حالة الكساد في محلات بيع الملابس الجاهزة؛ ما يضطرها إلى عدم الاستيراد السنوي؛ لأن لديها مخزونا من أعوام سابقة في ظل تراجع شراء الملابس بسبب تداعيات الحرب.

فيما يقول الحاج مبروك، وهو سبعيني يبيع الزبيب والمكسرات في ميدان التحرير بصنعاء إن الوضع لم يعد كما كان. يوضح: بالفعل مازال الناس يشترون جِعَالة العيد، لكن الوضع مختلف عما كان قبل الحرب؛ فالأسعار كانت رخيصة وأحوال الناس كانت تمام، لكن الآن الأسعار مرتفعة وأوضاع الناس (يستر الله)، ومع ذلك نبيع يوميًا قدرا لا بأس به من الزبيب والمكسرات، فما يشتريه الزبون اليوم أقل بكثير مما كان يشتريه قبل الحرب؛ فظروف الناس صعبة، والكثير لا يستلمون مرتبات.

يأتي الحاج مبروك إلى صنعاء قبل عيدي الفطر والأضحى لبيع جِعالة العيد، وهي الزبيب والمسكرات والشوكلاتة وغيرها، بينما هو من سكان منطقة بني حِشِيِش في ضواحي صنعاء، وهي منطقة مشهورة بزراعة أجود أنواع العنب في اليمن، وفيها يتم تجهيز الزبيب وبيعه في المدن.

ويمتلئ ميدان التحرير بصنعاء بباعة الزبيب والمكسرات والشوكلاتة قبل العيد، ويُعدُّ وجودهم مظهرًا من مظاهر اقتراب العيد في صنعاء.

ما يمكن قوله إن ثمة إصرار يمنيّ عجيب على أن عيش طقوس الفرحة بأي مستوى في سياق إصرار متواصل على تحدي ظروف الحرب، التي خسر فيها اليمنيّ الكثير من راحة البال واستقرار الحال.
​القدس العربي

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى