اليمن والصراع الخفي

> تعد اليمن واحدة من أفقر دول العالم على الإطلاق وتحتل مركزا متأخرا للغاية في مؤشرات التنمية الاقتصادية والإنسانية عالميا.

إن اليمن ليست فقيرة بالموارد وبالتالي فإن الأزمة الاقتصادية ليست بسبب ضعف الموارد ولكن السبب هو سوء استخدام الموارد، و بسبب الحرب الدائرة والتي هي في الأساس صراع على الموارد.

إن إطالة أمد الحرب إلى تسع سنوات قد أفسحت المجال واسعا وبدون عوائق للتدخلات الخارجية المباشرة أو بالوكالة، وهي واحدة من علامات للصراع على الموارد و على الرغم من توقف العمليات العسكرية إلا أن الساحة تشهد صراعا خفيا شديدا للغاية، بين عدة قوى محلية وإقليمية ودولية لتقاسم الموارد وحفظ المصالح والنفوذ على حساب البلد، و بعد الفشل في حسم الصراع عسكريا تجري استعدادات واسعة لحسم الحرب عن طريق الاستحواذ على الموارد الاقتصادية والمناطق الاستراتيجية المهمة في البلاد.

إن أهم الموارد الاقتصادية في البلاد هي موارد النفط والغاز، ومن ثم فإن الاستيلاء على الموارد الاقتصادية هو الهدف الأول والأخير للنزاع الدائر في البلاد منذ أمد بعيد.

تشكل الموارد الطبيعية النفط والغاز أهم موارد البلاد المالية، وبحسب المعلومات في عام 2019م كانت نسبة قيم الصادرات من هذا القطاع 90 ٪ من إجمالي قيمة الصادرات ، كما ساهم هذا القطاع بنسبة تتراوح بين 30 - 40 ٪ تقريبا في تكوين المنتوج الوطني الإجمالي ، كما شكلت الإيرادات النفطية لفترة ما قبل الحرب حوالي 70 ٪ من إجمالي إيرادات الموازنة العامة للدولة ، وبشكل عام فإن قطاع النفط والغاز يعد أهم روافد البلاد من العملة الصعبة، اللازمة لتغطية الاحتياطات الخارجية من النقد الأجنبي، وتمويل الواردات السلعية وعاملا مهما لدعم استقرار سعر صرف العملة المحلية، ويشكل هذا القطاع إلى جانب الموارد الطبيعية المعدنية كالذهب وغيرها موارد ذات أهمية استراتيجية تدر أموالا طائلة للبلد الفقير.

وبسبب الحرب الدائرة فقد انخفض إنتاج وتصدير النفط والغاز بنسبة كبيرة، ثم توقف نهائيا منذ نهاية العام 2022 بفعل هجمات مسيرة على موانئ تصدير النفط، وتهديدات للشركات المنتجة وسفن التصدير، وبناء عليه تعاني حكومة عدن أزمة اقتصادية حادة بسبب أزمة المالية العامة للدولة، وقد يتسبب ذلك في وقف تأدية الحكومة لوظائفها بشكل كامل، في حال عدم الحصول على مساعدات خارجية، وقد تصل الأمور إلى وقف الإنفاق على الخدمات العامة والأجور والمرتبات، و توقف الإنفاق الاستثماري وفشل عام للدولة قد يؤدي إلى انهيارها، مما يدل على محورية الصراع على الموارد الاقتصادية كهدف نهائي للصراع الدائر في البلاد.

إن موقع اليمن الجغرافي هو أيضا محل صراع خفي محلي وإقليمي ودولي بشكل مباشر أو عبر وكلاء، ويبدو ذلك جليا من خلال الصراع على الموانئ والممرات الدولية، وبخاصة موانئ تصدير النفط والغاز ، وهي موانئ راس عيسى جنوب البحر الأحمر، ومينائي الشحر وبلحاف، بالإضافة إلى صراع حول التحكم في موانئ البلاد الأخرى ذات الأهمية الاستراتيجية تجاريا.

وهناك صراع آخر، وهو الصراع المحتدم والمتمثل في سعي المتنافسين للاستيلاء على المطارات والجزر والممرات، حيث تمتلك البلاد حوالي 128 جزيرة على طول سواحل البلاد البالغة حوالي 2000 كيلو متر، كما يشمل الصراع بين المتحاربين صراعا قويا للاستيلاء على مضيق باب المندب ذي الأهمية الاستراتيجية عالميا.

كما أن الصراع مستميت على تقاسم الموارد المالية الشحيحة من مصادرها المختلفة مشروعة وغير مشروعة كالجمارك والضرائب، وغيرها من الجبايات والرسوم بأنواعها قانونية وغير قانونية، والصراع يمتد للاستحواذ على الموارد المالية للمؤسسات الإيرادية المنتشرة على طول البلاد وعرضها كالاتصالات.

هذا ويلاحظ أن العمليات العسكرية قد هدأت نسبيا في الحدود المتاخمة للمناطق الغنية بالموارد الاقتصادية، وكذا المناطق الجغرافية ذات الأهمية الاستراتيجية والحدود الدولية للبلد، لحساسية هذه المناطق وأهميتها كمناطق تماس لمصالح أطراف محلية وإقليمية ودولية، خاصة مصالح الشركات والدول الغربية.

إن الهدف النهائي للمتحاربين هو الاستيلاء على مناطق الثروات الطبيعية والمناطق الاستراتيجية وحدود الدولة، ولخطورة الحرب على تلك المناطق نلاحظ توقف الحرب على بعد مسافات محدودة من تلك المناطق الغنية بالموارد أو ذات الأهمية الجيواستراتيجية لحساسية الحرب في تلك المناطق، بسبب اهتمام الإقليم والعالم ببقائها تحت سيطرة الحكومة الشرعية، خوفا من استغلال تلك الموارد لأهداف عدائية تضر بالأمن والسلم الإقليمي والدولي، ومصالح الدول والشركات العاملة في البلاد.

ويلاحظ من خارطة تقاسم الأراضي بعد تسع سنوات من الحرب أن السلطة الشرعية تستولي وبدعم إقليمي من التحالف العربي على كل المناطق الغنية بالثروات المكتشفة، وهي مأرب وشبوة وحضرموت وهي المناطق المنتجة للنفط والغاز التي تمتلك احتياطيات ضخمة، وتلك المناطق هي مناطق تصدير النفط والغاز وبالتالي تشكل مصدرا مهما لاحتياجات البلد من موارد النقد الأجنبي، ويسعى المنافسون الحوثيون للسلطة المعترف بها دوليا، للاستيلاء على تلك المناطق بالحرب أو بغيرها من الأساليب المعروفة في البلاد، وخاصة استخدام الرشاوي وشراء الذمم والذي يمتلك اليمنيون خبرة واسعة النطاق في هذا الأسلوب المتوارث أجيالا بعد أجيال.

ونفس الوضع ينطبق على المناطق الاستراتيجية في الدولة حيث تسيطر السلطات الشرعية وبدعم خارجي، مباشر وغير مباشر على الموانئ وعلى السواحل المهمة، وتسيطر على أهم المطارات وعلى الجزر المهمة مثل سقطرى، وتسيطر أيضا على مضيف باب المندب ذي الأهمية الاستراتيجية في التجارة الدولية،

إن سيطرة السلطات الشرعية على مناطق الثروات ومناطق التميز الاستراتيجية هو مصدر القوة الوحيد المتبقي في أيديها، ونعتقد أن الحكومة المعترف بها دوليا قد تخسر بعض الأراضي والامتيازات أمام المنافسين حربا أو عبر المفاوضات.

إن خير تعبير على الصراع الخفي الدائر حاليا هو التنافس في السيطرة على حضرموت وشبوة والمهرة وسقطرى بين قوى ظاهرة وخفية، وهو تعبير غبي عن صراع خفي على تقاسم الثروات، بعيدا عن حلول السلام في البلد والذي يبدو مؤجلًا إلى حين الاتفاق على تقاسم الثروات.

إن الصراع الخفي حول الاستيلاء على الموارد قديمًا منذ ما قبل الوحدة، ولكن حاليا أصبح إشكالية يستخدمها المتحاربون لفرض أمر تقاسم الثروات لهم، ومن يدورون في فلكهم، ويعملون على الحصول على نصيب الاسد، سواء بالحرب أو وضع تقاسم الثروة كشرط لإحلال السلام.

نعتقد أن الصراع سيكون قويا جدا في سبيل الاستيلاء على الموارد العامة للدولة، في المستقبل القريب، في حال عدم التوصل لوقف دائم للحرب وإحلال السلام، وجلوس الخصوم على طاولة المباحثات للاتفاق على مستقبل البلاد وتوزيع عادل للثروات.

إن التوزيع العادل للثروات هو أشد مجالات الحرب والسلام صعوبة في مستقبل البلاد وسوف يأخذ وقتا وجهدا كبيرا، لإحلال السلام والاتفاق على توزيع الثروة في البلاد، مع مراعاة للأسس الجغرافية والتاريخية التي سادت في البلد لفترات طويلة .

إن أكبر مجالات الاضطراب في المستقبل هو مجال استغلال واستخدام الثروات وعوائدها، حيث تتوزع بشكل غير متناسب مع عدد السكان، فالثروات توجد في مناطق فقيرة السكان وفي ذات الوقت فإن أكثر السكان ينتشرون في مناطق فقيرة من الموارد، وهذه من الحظوظ السيئة التي لا تساعد على بناء مستقبل يسوده الأمن والسلام والعدل والتنمية المستدامة.

إن تعقد الحلول ليس فقط بسبب الخلافات الداخلية فقط، ولكن تأمين مصالح الإقليم والعالم هو من محددات الحل النهائي للصراع، وخاصة بعد انكشاف البلد أمام العالم وفشله في حل مشاكله الداخلية، فاستدعاء الخارج يعد من أكبر معوقات الحل الدائم الذي يقود إلى التنمية والاستقرار المستدامين.

* رئيس مؤسسة الرابطة الاقتصادية

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى