ثقافة البناء والمعمار الحربي في كتاب: «اليمن من الداخل.. المكان شاهدًا»

> عبده منصور المحمودي

> ثقافة البناء والمعمار الحربي في اليمن محورٌ مهم، من محاور التراث المادي، في الثقافة الشعبية. وهو الأمر الذي جعل من هذا المحور محتوى جوهريًا، في مساحاتٍ شاسعةٍ من كتاب: «اليمن من الداخل.. المكان شاهدًا» الصادر في طبعته الأولى عن دار عناوين بوكس في القاهرة، 2022. للكاتب اليمني أحمد الأغبري، صاحب الاشتغال الاستثنائي على الشأن الثقافي، طيلة ما يربو على العقدين من الزمن.
عبده منصور المحمودي *
عبده منصور المحمودي *


تتبلور فكرة العمل الرئيسة في (المكان/ اليمن)؛ استهلالًا بإحالات عنوانه، مرورًا بصفحة الإهداء. ومن ثم غوصًا في موضوعاته المتعددة، بعد مقدمةٍ أضاءت آليتَه المنهجية، التي تضمنت انتماءه إلى «أدب الرحلة» كما تضمنت غايته الهادفة إلى الوقوف «على المكان شاهدًا على هوية الإنسان في متن شخصية اليمن، من خلال تَتَبع سيرة مدنٍ وقرى وحصونٍ وقصورٍ ومدارسَ وجزرٍ ومحمياتٍ طبيعية بالإضافة إلى الشارع».

تماهى الكاتب في حضارة الأمكنة، التي توزعت عليها محطات ترحاله، فاكتنز تدوينه لتفاصيلها، الكثير من خصائص المجتمع اليمني الثقافية والحضارية، بما في هذه خصائص العلاقة بين الإنسان، وثقافة المكان المعمارية، التي تعبر عن هويته وخصوصية طابعه الثقافي والإنساني.

ثقافة الطين والحجارة

إن السياق الرئيس في هذا العمل هو سياق التراث الثقافي المادي، المتمثل في ثقافة البناء اليمني المتمايز في أنساقه؛ تبعا للتمايز بين بيئات البلد والتنوع في تضاريسه ومناخه، وهو ما انعكس «في مكونات منظومته الثقافية بما فيها نظم البناء، إذ لكل منطقة يمنية موادها في البناء، وتقاليدها في المعمار».

وقد أفضت مضامين العمل، إلى تصنيف ثقافة البناء اليمني ـ على تمايز أنماطها ـ في نسقين رئيسين، الأول: نسق (معمار الحجارة) الذي يتجانس مع المناطق الجبلية. ومن تجلياته ما ظفرت به رحلات الكاتب إلى مدينة «صنعاء القديمة» ومدينة «ثلا» وقرية «بيت بوس» و»دار الحجر».

والنسق الثاني: نسق (العمارة الطينية) المتجانس مع طبيعة المناطق الساحلية والصحراوية. ومن تفاصيله الطابع المعماري في مدنٍ وقرى ومعالم حضرمية: «شبام حضرموت» و "الهجرين" و" تريم" وقرية «حيد الجزيل» و « قصر سيئون». كما يقف الكاتب، على أنواعٍ من التمايز المعماري بين أنماط النسق الواحد، فيتناول في نسق (معمار الحجارة) خصائص ثقافة البناء في مدينة صنعاء القديمة، بنوافذها الخشبية المتَوجة بعقودٍ جصية مملوءةٍ بالزجاج الملون، اصطلحت عليها المحكية اليمنية باسم «القمرية». ومثلها «الطيرمانة» التي تطلقها المحكية، على تلك الحجرة العلوية المبنية على سطوح المنازل. كذلك تناولت السياقات التدوينية ثقافةَ البناء في مدينة عدن، وخصائص نمطها المعماري، الذي تنعكس فيه قيمها الإنسانية، مثل قيم التسامح والتعايش اللتين تحيل عليهما سمة التنوع في دوْر العبادة، بين مساجد وكنائس ومراكز تعبدية لأديان مختلفة، منها ما يزال قائما، كمعابد اليهود والهندوس والزرادشتيين. كما يحيل نمط بناء المنازل العدنية، على قيمة التآلف الإنساني بين الثقافات والأعراق والأجناس المختلفة، لاسيما ما تتميز به مدينة «كريتر» من طرازٍ معماري، «يشكل مزيجًا من طرز كثيرة، فارسية وهندية وأوروبية ويمنية غالبة». وفي سياق هذه القيم الإنسانية، تأتي قيمة التلاقح الثقافي بين الحضارات الإنسانية؛ إذ تمثل هذه القيمة الثقافية واحدة من خصائص المعمار الحضرمي، المتأثر بالنمط المعماري السائد في جنوب شرق آسيا، وجلبه المهاجرون الحضارمة إلى بلدهم، ثم أضفوا عليه خصائصَ المعمار المحلي، فكان من نماذجه ـ في ثنايا هذا العمل ـ معمار مدينة «تريم» ومعمار «قصر سيئون».

ثقافة البناء: الوظيفية والجمالية

قدم العمل ـ من خلال رحلتي الكاتب إلى مدينة «الطويلة» وقرية «بيت بوس» ـ توصيفًا وظيفيًا للمعمار اليمني، الذي يغلب عليه أن يكون فيه الطابق الأرضي مستخدمًا حضائر للحيوانات ومخازن، والطوابق العلوية لأفراد الأسرة، بينما يحظى الطابق الأخير بخصوصيته: مجلسًا لاستقبال الضيوف، ومكانَ استراحةٍ لأفراد العائلة كلهم. وفي استكناهٍ جمالي، أضاء العمل صورًا من الأنساق الجمالية في المعمار اليمني. التي تتجلى في منظومةٍ من النقوش والتشكيلات والزخارف المتنوعة، على الجدران والواجهات والنوافذ والأبواب. كما تتجلى، في جماليات النتوءات الزخرفية المعروفة بـ «المشربيات». وفي كثافة الزينة، التي تزدان بها «مدرسة العامرية» موزعة فيها على: نقوشٍ وخطوطٍ وزخارفَ وألوانٍ وتشكيلاتٍ هندسية متنوعة.

ثقافة المعمار الحربي

إن الغاية الرئيسية ـ التي تقف وراء إخراج الكاتب لهذا العمل إلى النور بالتزامن مع ما يعيشه البلد من مأساوية الحرب ـ هي رغبته، في قراءة حكاية البلد مع المنجز الحضاري الإنساني ثقافيًا وفنيًا وجماليًا، من أجل نقل «صورة متخففة من أي (حمولة زائدة) فرضتها الحرب الأخيرة».

وعلى ذلك، فلم يكن من السهل مخاتلة الحرب، أو تجاوز تداخلها مع تفاصيل ثقافة البناء وأنماط المعمار اليمني؛ كونها نسقًا ثقافيًا راسخًا في الحياة اليمنية، وفي واقعها المعاصر، وتحولاتها السياسية المختلفة، والصراعات المحتدمة بتراكمٍ تاريخي متقادم.

ومن أهم خصائص المعمار الحربي، التي وردت في هذا العمل، تلك المتعلقة باختيار الأماكن العالية؛ لتشييد الأبنية مدنًا وقرى؛ إذ "يشار إلى أن معظم سكان اليمن يفضلون عمومًا سكنى المناطق المرتفعة لما توفره من أمان من السيول، وما تتمتع به من تحصين طبيعي يحميها من غارات الحرب".

وضمن تفاصيل هذه الفكرة الحربية ـ القائمة على أهمية ارتفاع مكان البناء ـ يظهر تفصيلٌ أكثر أيغالًا في تجسيد ماهية المعمار الحربي، من خلال خصوصية بعض الأماكن المرتفعة، التي تطل على مهاوٍ سحيقةٍ من جهاتٍ ثلاث، وجهَةٌ واحدةٌ فقط هي الطريق إليها. ومن هذه الأماكن، الموقع الذي بنيت عليه قرية «بيت بوس» المتميزة بتحصيناتٍ دفاعية طبيعية، علاوة على توافر مخرجٍ سري فيها، يؤدي إلى الساحة الخارجية، يتم استخدامه للخروج الطارئ. ومثلها قرية «حيد الجزيل» التي تموضعت على قمة جبلٍ مقطوعٍ من ثلاث جهات، فكانت أكثر أمانًا في حال الصراعات والاعتداءات.

كذلك، من خصائص المعمار الحربي في اليمن، تلك الغاية الدفاعية الكامنة في أسوار المدن وأبوابها؛ «فقد كان السور القديم لمدينة صنعاء القديمة يتمتع بسماكة وصلابة، كما استعْمل الممر نفسه للحراسة ولمرور عربات المدافع القديمة في حالات تعرض المدينة لهجوم». ومثل ذلك، هي خصائص المعمار الحربي، في التحصينات الدفاعية لمدينة «ثلا» التي «يحيط بمبانيها سور ترتفع منه أبراج المراقبة، وتتخلله تسع بواباتٍ تنتشر في أجزاء متفرقة منه، ولكل بوابة منها منشآت دفاعية متمثلة في برجين عن اليمين وعن الشمال». والأمر ذاته في مدينة «الطويلة» التي تعد ـ بحصونها المتعددة وتفاصيل معمارها الحربي ـ من أكثر المدن تجسيدًا لواقع العمارة الحربية في اليمن. كما تتجلى ثقافة المعمار الحربي، من خلال البناء المرتبط بحماية النشاط التجاري؛ فلم يكن الهدف من إنشاء قلعة «صيرة» في عدن سوى حماية المدينة ومينائها، وبهذا الهدف صارت القلعة ـ بمعية عدد من الحصون ـ أبرز ملامح نشاط المدينة العسكري، كذلك، كان المعمار الحربي تحصينًا منيعًا للمدن المطلة على طرق القوافل التجارية القديمة، مثل مدينة «شبام حضرموت» ومدينة «الهجرين».

الثقافة: أدبًا وصحافة

تتماهى في هذا العمل الثقافتان المادية وغير المادية، الشعبية والعامة؛ إذ تتضمن سياقات الثقافة المادية نسقا من الثقافة غير المادية، كالمعتقدات والأساطير، التي منها ما يتعلق بتسمية «باب اليمن» وطقوس «الساعة السليمانية». ولعل الصورة الأكثر استيعابًا لهذا التماهي، هي الصورة التي اضطلع بها «شارع المطاعم» في مدينة صنعاء، إذ يظهر فيه نسق الحياة الشعبية وخصائصها الثقافية متماهيًا في نسق الثقافة العامة، التي تتجسد في نخبةٍ من المثقفين والأدباء والكتاب، الذين يجدون في هذا المكان ملاذًا لهم، وجامعًا لأرواحهم المتعبة. كما أن الفاعل في التجسيد التدويني لهذا التماهي كامنٌ في توظيف الكاتب لما لديه من تراكم خبرةٍ صحافيةٍ وميول أدبية وثقافية متنوعة، في التعاطي مع هذا التماهي الثقافي والحضاري. فتضافرت جماليات الأدب وخصائص الكتابة الصحافية في تشكيل أسلوبه الكتابي؛ إذ كان أدب الرحلة فاعلًا في سلاسة المعاني المتدفقة نسيجًا راشحًا بطاقةٍ وجدانيةٍ شفافة. كما كانت لخصائص الكتابة الصحافية فاعليتها، في تداعي الكاتب مع تفاصيل رحلاته، منها إشاراته إلى بعض النتائج، التي وصلت إليها دراساتٌ علمية، معززًا بها حديثه عن بعض الأماكن، مثلما برهن به على الخصائص الطبيعية والعلاجية التي تتفرد بها مدينة «دمت».

وفي السياق ذاته، يأتي استئناس الكاتب بتقارير منظمات دولية، أهمها تقارير منظمة (اليونسكو) للتربية والعلم الثقافة، منها ما يتعلق بإدراج مناطق أثرية يمنية في قائمة التراث العالمي، أو إخراج هذه المناطق إلى قائمة التراث المهدد بالخطر. وقد تجسد ـ من خلال هذا الاهتمام الملحوظ بهذا المنحى ـ نوعٌ من التجلي لرؤيةٍ إنسانيةٍ، تضع هذه المناطقَ وآثارها في سياق الحضارة الإنسانية. كما أن من أهم خصائص الكتابة الصحافية، التي قام عليها أسلوب تأليف الكتاب، ما يحيل منها على ماهية الرسالة الإعلامية واضطلاعها بمسؤولية تفكيك سلبيات الواقع. كالإشارة إلى زحف المدينة العمراني على المناطق الزراعية الخصبة، والإشارة إلى ما تتعرض له بعض المواقع الأثرية من تشويه وإهمال. وبمثل هذه الإشارات، تحقق الرسالة الإعلامية ما تهدف إليه، من لفت الانتباه الرسمي والمجتمعي، إلى ما ينبغي العمل عليه؛ تحاشيًا لأي تداعياتٍ ستفضي إليها سلبيات الواقع واختلالاته.

شاعر وناقد يمني*

القدس العربي

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى