قصة الأمام أحمد بن حنبل مع الخلفاء

>
> واستمر الأمام أحمد بن حنبل في طلب الحديث وروايته حتى بعد أن بلغ مبلغ الإمامة، حتى لقد رآه رجل من معاصريه والمحبرة في يده يكتب. فقال له: يا أبا عبد الله، أنت قد بلغت هذا المبلغ وأنت إمام المسلمين؟ فقال: مع المحبرة إلى المقبرة. وكان رحمه الله تعالى يقول: أنا أطلب العلم إلى أن أدخل القبر.

وهكذا كان أحمد يسير على الحكمة المأثورة: لا يزال الرجل عالما ما دام يطلب العلم، فإذا ظن أنه علم، فقد جهل. نطق بها عمله، ونطق بها لسانه في تلك الكلمات.

وكان رحمه الله يطلب فيما يطلب علم الفقه والاستنباط مع الرواية، وتلقى ذلك عن الشافعي وغيره، بل إننا لننتهي إلى نقبل ما قيل عنه من أنه كان يحفظ كتب أهل الرأي، ولكن لا يأخذ بها، فقد قال تلميذه الخلال: " كان أحمد قد كَتَب كُتب الرأي وحفظها، ثم لم يلتفت إليها".

قال ابن الجوزي: إن أحمد لم ينصب نفسه للحديث والفتوى إلا بعد أن بلغ الأربعين، وبعد أن ذاع ذكره في الآفاق الإسلامية، فازدحم الناس على درسه شديدًا، حتى ذكر بعض الرواة أن عدة من كانوا يستمعون إلى درسه نحو خمسة آلاف، وأنه كان يكتب منهم نحو خمسمائة فقط، والباقي يتعلمون من خلقه وهديه وسمته، وكان مجلسه بعد العصر، تسوده الهيبة والتعظيم لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد جاء في " تاريخ الذهبي " عن المروذي صاحب أحمد في وصف مجالسه: "لم أر الفقير في مجلس أعز منه في مجلس أبي عبد الله، كان مائلا إليها، مقصرًا عن أهل الدنيا، وكان فيه حلم، ولم يكن بالعجول، بل كان كثير التواضع، تعلوه السكينة والوقار، وإذا جلس مجلسه بعد العصر لم يتكلم حتى يسأل".

وكان لا يحدث إلا من كتبه، زيادة في التوثيق والتأكيد، حتى قال ولده عبد الله: "ما رأيت أبي حَدَّثَ مِن حفظه من غير كتاب، إلا بأقل من مائة حديث ".

ويجدر بنا أن نشير إلى أمر ذي بال، وهو أن أحمد رضي الله عنه كان يحيا حياة سلفية خالصة، تجرَّد فيها من ملابسات العصر ومناحراته، وما يجري من منازلات فكرية وسياسية واجتماعية وحربية، واختار أن يحلق بروحه في جو الصحابة والصفوة من التابعين ومن جاء بعدهم، ممن نهج نهجهم واختار سبيلهم، لذلك كان علمه وفقهه هو السنة وفقهها، لا يخوض في أمر إلا إذا علم أن الصحابة خاضوا فيه، فإن علم ذلك اتبع رأيهم ونفى غيره.

كان أحمد يعيش من غلة عقار تركه له أبوه، يتعفف بكرائها عن الناس، ولا يقبل عطية من أحد، وكان عن عطايا الخلفاء أعف، حتى عرض عليه الإمام الشافعي مرة أن يتولى قضاء اليمن بطلب من "الأمين"، فقال أحمد للشافعي: "يا أبا عبد الله ! إن سمعت منك هذا ثانيا لم ترني عندك".

يروي حرملة بن يحيى تلميذُ الشافعي أنه قال: "خرجت من بغداد وما خلفت بها أحدا أورع ولا أتقى ولا أفقه من أحمد بن حنبل".

وقال علي بن المديني:"أعرف أبا عبد الله منذ خمسين سنة وهو يزداد خيرا".

وقال يحيى بن معين: "والله لا نقوى على ما يقوى عليه أحمد، ولا على طريقة أحمد".

يقول إسحاق بن راهويه:"كنت أجالس بالعراق أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأصحابنا، فكنا نتذكر الحديث من طريق وطريقين وثلاثة، فأقول: ما مراده؟ ما تفسيره؟ ما فقهه؟ فيقفون كلهم، إلا أحمد بن حنبل".

وتعرض الإمام إلى محنة عظيمة بسبب دعوة المأمون الفقهاء والمحدثين أن يقولوا بمقالته في خلق القرآن، فحبس وضرب وتوالى ثلاثة من الخلفاء على ذلك: المأمون، والمعتصم، والواثق.

عُرف الإمام أحمد بالصبر والقوة والجلد، ويذكر أهل السير في ذلك خبرا، أنه أدخل على الخليفة في أيام المحنة وقد هولوا عليه لينطق بما ينجيه ويرضيهم، وقد ضرب عنق رجلين في حضرته، ولكنه في وسط ذلك المنظر المروع وقع نظره أيضا على بعض أصحاب الشافعية، فسأله: وأي شيء تحفظ عن الشافعي في المسح على الخفين، فأثار ذلك دهشة الحاضرين وراعهم ذلك الجنان الثابت الذي ربط الله على قلب صاحبه، حتى لقد قال خصمه أحمد بن أبي دؤاد متعجبا: انظروا لرجل هو ذا يقدم لضرب عنقه فيناظر في الفقه. ولكنها الإرادة القوية والإيمان العميق والنفس المفوضة المسلمة لقضاء الله.

توفي هذا الإمام العظيم ضحوة نهار الجمعة، لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، سنة إحدى وأربعين ومائتين ببغداد.

وفي سيرة هذا الإمام الكثير من العبر والعظات، رحم الله الإمام أحمد وجميع أئمة المسلمين.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى