> جون بولتون:
الشرق الأوسط سيكون الاختبار الأكثر إلحاحًا بين مختلف التحديات الرئيسة التي سيواجهها ترامب في بداية رئاسته الثانية. فقراراته في هذا الصدد، لن تكون موضع انتباه ومتابعة من دول الشرق الأوسط فحسب، بل ستكون أيضًا محط اهتمام الصين وروسيا وغيرهما من خصوم الولايات المتحدة لأن تداعياتها ستكون واسعة النطاق وستخلف آثارًا بعيدة المدى.
لا شك في أن انتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة يعني أن تحولًا سيطرأ على سياسة واشنطن تجاه الشرق الأوسط. لكن السؤال الملح يبقى ما إذا كان هذا التحول سيكون كافيًا وحاسمًا بالمقدار الكافي. فالاختبار المبكر الذي سيواجهه ترامب يكمن في مدى إدراكه للتغيرات الجيوسياسية الكبيرة التي حدثت في المنطقة منذ مغادرته منصبه بعد انتهاء ولايته الرئاسية الأولى والتي قد تتطور بصورة أكبر قبل موعد تنصيبه في الـ 20 من يناير عام 2025. وحتى الآن، لا يبدو أن هناك مؤشرات تدل على أن ترامب يدرك الفرص الاستراتيجية الجديدة من جهة، أو التهديدات التي تواجهها واشنطن وحلفاؤها من جهة ثانية.
من المرجح أن تتجه الأنظار مع تولي ترامب مهماته الرسمية نحو الأزمة المركزية في المنطقة المتمثلة في استراتيجية "حلقة النار" Ring of Fire المستمرة التي تنتهجها إيران ضد إسرائيل. ففي الوقت الراهن، تعمل إسرائيل بصورة منهجية على تفكيك القيادة السياسية لحركة "حماس" وتحييد قدراتها العسكرية وتدمير تحصيناتها تحت الأرض في أنفاق غزة. في الوقت نفسه، توجه إسرائيل ضربات قوية إلى "حزب الله" في لبنان، حيث يتم القضاء على قادته الرئيسيين، وهي تواصل بصورة مطّردة تدمير مخزونه الضخم من ترسانة الصواريخ وتحطيم مواقعه المحصنة ومخابئه، وستستمر في حملة إضعاف "حماس" و"حزب الله" للقضاء على هذه الركائز الأساسية للنفوذ الإيراني. وحتى إدارة الرئيس بايدن ضغطت بالفعل على دولة قطر لطرد قيادة "حماس" من الدوحة.
لكن المؤسف أن الحوثيين في اليمن ما زالوا يواصلون تعطيل ممر قناة السويس والبحر الأحمر، ولم يتكبدوا حتى الآن سوى أضرار طفيفة مشابهة لتلك التي تعرض لها وكلاء إيران من الميليشيات الشيعية في كل من سوريا والعراق.
أما إيران نفسها، فواجهت ردًا انتقاميًا ملحوظًا في الـ 26 من أكتوبر الماضي، عندما استهدفت إسرائيل دفاعاتها الجوية من طراز "أس - 300" التي كانت روسيا زودتها بها، ووجهت ضربة قوية إلى مواقع إنتاج الصواريخ فيها. ومع ذلك، تظل الخسائر المباشرة لإيران محدودة. وكانت القدس، مع تزايد الضغوط عليها من جانب البيت الأبيض قبيل موعد الانتخابات الأميركية، امتنعت عن استهداف برنامج طهران لتطوير الأسلحة النووية أو البنية التحتية النفطية لإيران.
إلا أن السؤال الذي يطرح والمتغير الأكبر غير المعروف يبقى، هل ستقدِم إسرائيل على مزيد من الإجراءات الحاسمة الأخرى قبل الـ20 من يناير عام 2025؟. فالضربات الجوية الإسرائيلية لإيران في الـ 26 من أكتوبر الماضي دفعت طهران إلى إطلاق سلسلة من الوعود المتكررة بالرد، لكن هذه التهديدات لم تنفذ. ويبدو أن القادة الإيرانيين من آيات الله يتخوفون من القدرات العسكرية الإسرائيلية، وربما يأملون في أن يتحول الاهتمام العالمي عنهم، مما يتيح لهم التراجع بهدوء عن مواجهة التهديد الإسرائيلي. لكن إذا اختارت طهران الرد، فمن شبه المؤكد أن الضربة المضادة من جانب إسرائيل ستكون ساحقة، خصوصاً إذا ما حصلت خلال فترة انتقال السلطة في الولايات المتحدة. ومن شأن مثل هذا الهجوم المضاد أن يلحق أضراراً بالغة ببرامج الأسلحة النووية والصاروخية في إيران، مما يؤدي إلى زعزعة أركان نظام آيات الله.
إن الاعتقاد السائد في واشنطن هو بأن ترامب سيعود لممارسة استراتيجية "الضغط الأقصى" من الناحية الاقتصادية على إيران، من خلال فرض عقوبات أكثر صرامة عليها وتطبيقها بفاعلية أكبر، إضافة إلى تقديم دعم أقوى وأكثر ثباتًا لإسرائيل، تمامًا كما فعل خلال ولايته الأولى. لكن إذا كانت هذه هي الحال، فيمكن لنظام الملالي في طهران أن يتنفس الصعداء وألا يشعر بقلق مفرط. فنهج "الضغط الأقصى" السابق لترامب كان محدود التأثير وأقل فاعلية بكثير مما جرى تصويره. والأسوأ من ذلك أن أحد ممثلي فريق ترامب أكد بالفعل أن الإدارة الأميركية المقبلة لن تكون "مهتمة بتغيير النظام في إيران"، مما يبقي الباب مفتوحًا، ولو من قبيل الخيال المفرط، على إمكان التوصل إلى اتفاق شامل مع طهران خلال فترة الولاية الثانية لدونالد ترامب.
إضافة إلى ذلك، وعلى رغم محاولات إظهار حسن النية من جانب بنيامين نتنياهو تجاه ترامب في المكالمة الأخيرة التي أجراها معه، فإن العلاقة بينهما على المستوى الشخصي ما زالت متوترة. وكان ترامب صرح عام 2021 بأن "أول شخص قام بتهنئة (بايدن) هو بيبي نتنياهو، الرجل الذي قدمتُ له أكثر من أي شخص آخر تعاملتُ معه. كان بإمكان بيبي أن يلتزم الصمت. لقد ارتكب خطًأ فادحًا".
هذا الكلام يعني من الناحية العملية أن إسرائيل يجب ألا تتوقع أن تحصل على المستوى نفسه من الدعم من جانب الرئيس المنتخب كما حدث في الماضي. ونظرًا إلى أن ترامب هو غير مؤهل من الناحية الدستورية للترشح لولاية رئاسية ثالثة، فإنه لن يخشى تاليًا من أي رد فعل سياسي في الداخل، إذا ما اتخذ مواقف قد تتعارض مع المصالح الإسرائيلية فيما يتعلق بقضايا رئيسة.
من هنا، فإن المنحى الذي ستسلكه الأمور يعتمد بصورة كبيرة على الظروف غير الواضحة حتى الآن التي سيواجهها ترامب بحلول الـ 20 من يناير عام 2025. فإضافة إلى رفضه فكرة تغيير النظام في إيران، يبدو أن ترامب يركز في المقام الأول على إنهاء الصراع بسرعة، وهو لا يبالي في الظاهر بطريقة حدوث ذلك. وهذا الموقف يتماشى مع نهجه تجاه موضوع أوكرانيا. فهو يصر على القول إن كلا النزاعين ما كانا ليحدثا لو كان بقي في السلطة، وهو ادعاء لا يمكن في أي حال إثباته أو دحضه، وينظر ترامب إلى هاتين الحربين على أنهما إرث غير مرغوب فيه تركه له بايدن.
ومن غير المرجح أن يكون لدى ترامب التركيز الكافي أو العزم على تشديد العقوبات وإعادتها إلى مستويات فاعلة. وفي الوقت نفسه، فإن التعاون المتزايد بين كل من روسيا والصين وإيران يعني أن حلفاء طهران سيبذلون جهدًا كبيرًا لتجاوز عقوبات الغرب عليها والتملص منها، تماماً كما فعلوا مع العقوبات الغربية المفروضة على روسيا بسبب حربها على أوكرانيا.
وكما يقال في ولاية تكساس، غالباً ما يكون ترامب شخصًا "يتحدث كثيرًا ولا يفعل شيئًا" All Hat And No Cattle. فهو يطلق تصريحات قوية لكن لا يترجمها إلى أفعال ملموسة. وبما أنه لم يظهر أي استعداد فعلي لاتخاذ إجراءات حاسمة ضد البرنامج النووي الإيراني، فإن العبء في النهاية يقع على كاهل إسرائيل التي تواجه بدورها مشكلات سياسية معقدة في الداخل. أما فيما يتعلق بالخيار الآخر المتمثل في دعم الشعب الإيراني على إطاحة النظام في طهران الذي يكنّ له الكره، فإن ترامب أبدى قليلاً من الاهتمام بهذا المنحى أيضًا، مما جعله يفوّت فرصًا نادرة كان من الممكن اغتنامها بتدخل خارجي محدود. وإذا كان آيات الله في طهران من الحكمة بمكان، فسيواصلون تقديم فرص تفاوضية لا نهاية لها للرئيس المنتخب، على أمل صرف انتباهه عن اتخاذ خطوات جادة لمعالجة التهديدات العميقة والدائمة التي يشكلها نظامهم.
ويبقى القول أخيرًا إن الشرق الأوسط سيكون الاختبار الأكثر إلحاحًا بين مختلف التحديات الرئيسة التي سيواجهها ترامب في بداية رئاسته الثانية. فقراراته في هذا الصدد، لن تكون موضع انتباه ومتابعة من دول الشرق الأوسط فحسب، بل ستكون أيضًا محط اهتمام الصين وروسيا وغيرهما من خصوم الولايات المتحدة لأن تداعياتها ستكون واسعة النطاق وستخلف آثارًا بعيدة المدى.
* مستشار الأمن القومي الأمريكي سابقًا
المصدر/ "رويترز"