> "الأيام" وكالات:

​إشبيلية (إسبانيا) - بينما اجتمعت 192 دولة في المدينة الإسبانية إشبيلية لتجديد التزاماتها بمكافحة الفقر ودعم التنمية المستدامة، اختارت الولايات المتحدة، بقيادة الرئيس دونالد ترامب، أن تقف خارج الإجماع الدولي.

ورفضت واشنطن التوقيع على “التزام إشبيلية”، وهي الوثيقة الختامية للمؤتمر الدولي الرابع لتمويل التنمية التي اختتمت الخميس، في خطوة أثارت قلقا واسعا بشأن مستقبل التعاون العالمي في تحقيق أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة.

وتأتي هذه الخطوة في سياق أوسع من إعادة تعريف السياسة الخارجية الأميركية، حيث تسود الإدارة الأميركية نظرة متشككة تجاه التعاون متعدد الأطراف، وخصوصا المبادرات الأممية التي تتطلب التزامات مالية طويلة الأمد.

ومنذ بداية ولايته الثانية، خفّض ترامب المساعدات الأميركية للتنمية بنحو 80 في المئة، بعد أن كانت تشكّل نحو ربع إجمالي التمويل العالمي للتنمية.

وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن الفجوة التمويلية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة قد ارتفعت إلى أكثر من 4 تريليونات دولار سنويا.

ويعكس هذا الرقم الضخم الحاجة الملحّة إلى موارد جديدة، خاصة في ظل تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية نتيجة التغير المناخي، والديون المتراكمة، والنزاعات المسلحة. لكن المؤتمر لم يكن معنيا بسد هذه الفجوة بشكل فوري، بل ركّز – كما يوضح خبير التمويل بودو إيلمرز من منتدى السياسة العالمية الأوروبي – على الدفع نحو إصلاحات هيكلية أعمق.

وبحسب إيلمرز، فإن الأولوية يجب أن تُعطى الآن لتحقيق العدالة الضريبية العالمية، وإدارة أزمات الديون، وإصلاح المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، بحيث تصبح هذه المؤسسات أكثر تمثيلا وفعالية في معالجة الاختلالات البنيوية التي تعيق التنمية.

ولا يمكن قراءة عدم توقيع الولايات المتحدة على “التزام إشبيلية” بمعزل عن مسار عام بدأ منذ إدارة ترامب الأولى، حيث انسحبت واشنطن من عدة اتفاقيات دولية تتعلق بالمناخ والصحة والتجارة. لكن رفضها الخميس الالتزام بهدف تمويل التنمية العالمية يُعدّ رسالة سياسية واضحة: الأولويات الأميركية لم تعد متسقة مع جدول أعمال التنمية العالمي.

وتشير مصادر دبلوماسية إلى أن الوفد الأميركي خلال جلسات المؤتمر أبدى تحفظات صريحة على ما اعتبره “تفويضا مفرطا” للأمم المتحدة في تحديد أولويات الإنفاق، إضافة إلى رفضه فكرة فرض ضرائب عالمية على الشركات الرقمية الكبرى، وهي أحد مقترحات المؤتمر لزيادة الموارد.

ويقول خبراء تنمية إن غالبية الدول التي تعيش تحت وطأة الديون وتعاني من الفقر المدقع هي التي تتأثر بشكل مباشر بالانسحاب الأميركي.

وبحسب أرقام المؤتمر، يعيش أكثر من 3.4 مليار إنسان في دول تنفق على خدمة فوائد الديون أكثر مما تخصصه للتعليم والصحة مجتمعتين، وهو واقع يعكس مفارقة مؤلمة: الفقر في هذه البلدان لا يعود فقط إلى ضعف الموارد، بل إلى هيكل تمويل دولي يكرّس التبعية ويقيد القدرة على الاستثمار الاجتماعي.

وكانت العديد من هذه الدول تعتمد بشكل كبير على المساعدات الأميركية في برامج الحماية الاجتماعية والتعليم والرعاية الصحية.

ومع تراجع هذه المساهمة، يزداد الضغط على الدول الأوروبية والدول الخليجية والمؤسسات المالية الدولية لملء هذا الفراغ، وهو أمر غير مضمون في ظل الأزمات المالية العالمية المتتالية.

ويشير مراقبون إلى أن انسحاب واشنطن قد يعطي دفعة جديدة للجهود الدولية لتشكيل تحالفات تمويل بديلة، بمعزل عن الإرادة الأميركية.

وفي كواليس المؤتمر، برزت مؤشرات على تنسيق أوروبي – أفريقي – لاتيني يهدف إلى دفع جدول أعمال إصلاحي مستقل، يشمل آليات ضريبية عادلة، وجدولة ديون أكثر إنصافا، وتعزيز تمويل التنمية من خلال الموارد المحلية لا القروض الأجنبية فقط.

ورغم أن الولايات المتحدة تظل أكبر اقتصاد في العالم وذات تأثير حاسم في صندوق النقد والبنك الدوليين، فإن غيابها المتكرر عن محافل التعاون الدولي قد يؤدي، بحسب بعض الخبراء، إلى تآكل نفوذها على المدى الطويل، ويفسح المجال أمام قوى أخرى مثل الصين أو الاتحاد الأوروبي لتشكيل النظام المالي العالمي الجديد.

ورغم أن “التزام إشبيلية” ليس وثيقة ملزمة قانونيا، لكنه يحمل قيمة رمزية كبيرة باعتباره إعلانا دوليا موحدا ضد الفقر والتهميش. وغياب الولايات المتحدة عن هذا التوافق، بحسب دبلوماسي أوروبي حضر المؤتمر، “يوصل رسالة إلى العالم مفادها أن القوة العظمى الأولى لا ترى أن التنمية العادلة مسؤولية جماعية”.

ويضيف الدبلوماسي أن هذا الغياب “يضعف من قدرة المجتمع الدولي على الضغط على الممولين الكبار لتقديم التزامات جديدة”، كما قد يدفع دولا أخرى إلى التراجع عن التزاماتها، تحت ذريعة أن واشنطن نفسها لم تعد تؤمن بالمشروع.

وفي ظل هذا السياق، تبدو الدول النامية أمام خيار صعب: إما التكيّف مع بيئة تمويل دولية أصبحت أكثر تقشفا وانغلاقا، أو الضغط من أجل إنشاء هياكل تمويل بديلة، تشمل ضرائب دولية على الأنشطة الرقمية، ومحاربة التدفقات المالية غير المشروعة، وتفعيل صندوق المناخ الأخضر.

لكن التحدي الأكبر يبقى سياسيا: هل تملك هذه الدول ما يكفي من الإرادة الجماعية لمقاومة النموذج النيوليبرالي الذي تكرّسه المؤسسات المالية الدولية أم أنها ستظل رهينة “سياسات التقشف المفروضة من الخارج”، كما وصفها أحد المشاركين من أميركا اللاتينية؟

ويكشف مؤتمر إشبيلية أن الالتزام بمكافحة الفقر لم يعد مجرد قضية إنسانية، بل أصبح اختبارا للعدالة العالمية والحوكمة الدولية.

ومع غياب الولايات المتحدة، يتعين على بقية الدول أن تثبت أن العمل الجماعي ممكن حتى في غياب القطب الأكبر.

ويبقى السؤال معلقا: هل يكون “التزام إشبيلية” نواة جديدة لنظام تمويل عالمي أكثر عدالة أم سيظل مجرد محاولة أخرى لاختراق جدار المصالح السياسية والاقتصادية للدول الكبرى؟.