مطالب أساتذة الجامعات .. استحقاق موضوعي وليس رغبة للإثراء

> د. محمد عمر باناجه

> الحدث، بمعايير الديمقراطية واقتصاد السوق، عادي جدا، لكن ردود الأفعال - هذه المرة- جاءت غير طبيعية. فبعد أن اضطر أساتذة الجامعات اليمنية إلى الإضراب انبرى نفر- نيابة عن الحكومة- للتصدي لهم ولمطالبهم عبر بعض الصحف المحلية.

فذهب أحدهم إلى وصف مطالبهم بأنها «رغبة للإثراء» (صحيفة «الأسبوع») .. بينما ذهب آخر إلى أبعد من ذلك، حين تمادى ومس أصحاب المطالب أنفسهم، بريشته المتبرئة منه، برسمهم وكأنهم مجرد أصحاب كروش كبيرة وعقول فارغة ويطالبون بما لا يستحقون «الثقافية»، ووقع بذلك المحذور الذي يعاقب عليه القانون اليمني (القذف).

وأياً كان تحمس هذا أو ذاك لموقف الحكومة تجاه مطالب أساتذة الجامعات، ما كان ينبغي لهما - في كل الأحوال- إطلاق التهم جزافا، دون دراية وإلمام ، ليس فقط بحيثيات المطالب، بل أيضا بسمو ومكانة الوظيفة الجامعية التي رفعها المشرع اليمني مكانا عاليا.

وهكذا تطرُف في الرأي، لم يقد صاحبيه إلى الإساءة لأساتذة الجامعات كأشخاص، بل قادهما إلى الإساءة لمؤسسة الجامعة ككل، وظيفةً، مهام، أهدافاً وقانوناً.

لا مكان ولا زمن للاستغراب من هذا الأسلوب، إن كنا قدا أدركنا منذ طفولتنا بأن «كل إناء بما فيه ينضح»، وبالرغم من تلك القناعة يظل الرد على تلك الاتهامات مطلوبا .. ولكنه رد لا يستهدف الإساءة لمن أساء إلينا، على طريقة المعاملة بالمثل، بل يستهدف توضيح حقيقة مطالبنا وإثبات شرعيتها.

وهكذا ينبغي على الجميع أن يفهم معنى الاختلاف في وجهات النظر، فما أحوجنا اليوم إلى ترشيد اختلافاتنا في وجهات النظر تجاه كل ما يعتمل من حراك في بلادنا على الصعيدين الكلي (مايكرو) والجزئي (ميكرو) بما يؤدي - دائما - إلى الحصول على أفضل الرؤى التي تعالج مشكلاتنا وتخدم تطور ونماء البلاد والعباد.

وتأسيسا على هذا المنهج بنيت وجهة نظري حول مطالب أساتذة الجامعات اليمنية، موجزا إياها (وجهة النظر) بالنقاط التالية :

< ليعلم من لم يكن يعلم، أن مطالب أساتذة الجامعات اليمنية إنما تستمد شرعيتها أولا وقبل كل شيء من المنطلقات القانونية التالية :

- قانون رقم (18) لسنة 1995م بشأن الجامعات اليمنية وتعديلاته.

- قرار رئيس مجلس الوزراء بشأن نظام وظائف وأجور الهيئة التدريسية بالجامعات اليمنية.

- محاضر اللقاءات الرسمية بين رئيس مجلس الوزراء ونقابة أعضاء الهيئة التدريسية.

وآخرها محضر أكتوبر 2001م، الذي تم فيه الاتفاق على مناقشة استكمال ما تم البدء به من تحريك لأجور أساتذة الجامعات بحسب ما هو مقر.

إذن شرعية المطالب مستمدة أصلا من شرعية الوثائق التي ضمنتها كاستحقاق موضوعي لأعضاء الهيئة التدريسية بالجامعات اليمنية لقيامهم بمهمات إنجاز وظيفة الجامعات وتحقيق أهدافها.

< ليس بخاف على أحد مكانة وسمو مؤسسة الجامعة في كل بلدان العالم، لما تضطلع به من وظيفة غاية في الأهمية والخطورة، إذ أن نجاح إنجازها يترتب عليه نهوض أمة، أما الإخفاق في إنجازها فيترتب عليه تخلف أمة.

وعماد مؤسسة الجامعة هو الأستاذ الجامعي الذي تقع على عاتقه مهمات لا تضاهيها مهمات من حيث صعوبتها، إذ أنها تتمحور حول التعامل مع أعقد جزء من مكونات الإنسان- العقل. وتعنى بصياغة وعي وشخصية قادة ومفكري وعلماء المستقبل.

ولعل قراءة سريعة لبعض ما ورد في القانون اليمني بشأن الجامعات كفيلة بتوضيح جسامة وخطورة المهام الملقاة على عاتق أساتذة الجامعات :

- تكوين الثقافة العامة الرامية إلى تنمية مقومات الشخصية الإسلامية الصحيحة والتكوين المعرفي والعلمي القويم.

- تكوين مهارات التفكير العلمي الابتكاري والناقد، وتنمية الاتجاه الإيجابي للطلاب لمفهوم التعلم الذاتي والمستمر مدى الحياة.

- اكتساب المعارف والمهارات العلمية والتطبيقية اللازمة وتسخيرها لحل المشكلات بفعالية وكفاءة.

- تنمية روح التعاون والعمل الجماعي والقيادة الفعالة والشعور بالمسؤولية والالتزام الأخلاقي.

- تنمية الاتجاهات الإيجابية نحو العلوم والتكنولوجيا وكيفية الاستفادة من كل ذلك في تطوير وحل قضايا البيئة والمجتمع.

انطلاقا من جسامة وخطورة المهام الملقاة على عاتق الأستاذ الجامعي في كل جامعات العالم، فقد أولته كافة الدول جل تقديرها، وحبته بما يستحق من اهتمام مادي ومالي يتجلى بتشريع أنظمة وهياكل خاصة للأجور والمزايا العينية لأساتذة الجامعات.

فمثلا نجد أن الأجر النقدي الشهري لأساتذة الجامعات في بعض الدول العربية يتراوح حسب الألقاب العلمية، في السعودية بين 2500-4000 دولار، في الإمارات العربية المتحدة بين 3200-5000 دولار بينما ينخفض قليلا في الدول غير النفطية، حيث يتراوح في الأردن بين 2000-3000 دولار، في مصر بين 1000-2000دولار، بينما يتحصل أساتذة الجامعات اليمنية على أدنى أجر نقدي من بين نظرائهم في الجامعات العربية كلها. إذن أليست المطالب استحقاقاً موضوعياً؟ فأصحابها لا يطالبون إلا بمساواة أجورهم النقدية بأجور نظرائهم في جامعات البلدان العربية غير النفطية.

وإذا كان هناك من يدعو إلى ضرورة رفع أسعار السلع والخدمات في بلادنا إلى مستوى أسعارها في البلدان المجاورة، فعليه أولا وقبل كل شيء أن يضمن رفع الدخول النقدية للعاملين في القطاعات كافة إلى مستوى البلدان المجاورة.

فالمعادلة الاقتصادية (الدخل- الإنفاق) لن تستقيم ما لم تتغير عناصرها بالمعدلات نفسها . أما أن يذهب البعض إلى مقارنة أجور أساتذة الجامعات مع متوسط الأجور السائدة في البلاد، فإنه بذلك إنما يريد تعميم الظلم، وليس رفع الظلم الواقع عليه بفعل تدني القيمة الاسمية والحقيقية لأجور معظم شرائح العاملين في الجهاز الإداري للدولة. فأين هي إذن المطالب التي تتفق ومنطق الأمور؟ في ظل اقتصاد السوق تعتمد خيارات الأفراد في الأسواق (سوق السلع والخدمات، سوق النقد والأوراق المالية وسوق العمل) بناء على القيمة الافتراضية لما يعرف بـ «الفرصة البديلة»، وحال الأجور في الجامعات اليمنية يجعل خيار الفرصة البديلة هو الأفضل في كل الأحوال، حيث تشير الوقائع إلى ارتفاع حجم التسرب من الجامعات اليمنية لدى أعضاء الهيئة التدريسية إما بسبب الهجرة إلى الخارج للعمل في الحقل الجامعي أو في حقول اختصاصية أخرى، وإما بسبب الانتقال للعمل في الداخل لدى المؤسسات والشركات الخاصة.

وإن كانت لا تتوفر لدينا بيانات كاملة في هذا الجانب، إلا أنه يمكن الإشارة إلى أن جامعات الإمارات لوحدها كانت قد استقطبت في حدود 70-80 عضو هيئة تدريسية من الجامعات اليمنية، زد على ذلك عدد المستقطبين في الجامعات العربية والأجنبية الأخرى، وعدد المبعوثين للدراسات العليا في الخارج الذين لم يعودوا إلى جامعاتهم اليمنية، وكذا الذين يعملون في مؤسسات وشركات خاصة في الداخل، وإن كانوا في بعض الأحوال إضافة إلى وظيفتهم في الجامعة. أليس في ذلك هجرة للأدمغة تعني إهداراً للموارد ونزيفاً اقتصادياً يترتب عليه خسائر باهضة ليس بالاقتصاد فحسب بل المشروع التنموي اليمني برمته.

من الأهمية بمكان ونحن نتحدث عن اختلاف الدخل النقدي لشرائح الموظفين المختلفة، أن نتحدث أيضا عن اختلاف نمو وبنية الإنفاق، فتوزيع الإنفاق على سلة السلع والخدمات لدى الأستاذ الجامعي يختلف عن توزيعه لدى الشرائح الأخرى من الموظفين، ويكفي هنا أن نشير إلى أن أستاذ الجامعة يخصص ما لا يقل عن 50% من دخله لمجابهة نفقات شراء الكتب والمراجع والصحف والمجلات والدوريات العلمية المتخصصة، الاستخدام الواسع للانترنت، التواصل مع الجامعات والهيئات العلمية العربية والأجنبية، الاضطرار دائما إلى استخدام خدمات البريد الممتاز، زيارات المكتبات وحضور الفعاليات العلمية المحلية والعربية ...إلخ، وبالرغم من ذلك تظل نسبة 50% من الدخل تمثل الحد الأدنى الذي يمكن به القيام بالمهام الجسيمة الملقاة على عاتق أستاذ الجامعة، وأي استهانة بتخصيصها تنعكس -دون شك - على فعالية وكفاءة أدائه.

بعد كل ما تقدم هل أدركنا أن المطالب استحقاق موضوعي وليس البتة رغبة للإثراء؟

وعلى من لم يدرك الحقيقة بعد، البحث عنها بعناء بين جملة من المؤشرات نضع منها اثنين للاستدلال:

- كم تبلغ نسبة من يسكنون في مساكن يملكونها من مجموع أعضاء الهيئة التدريسية في الجامعات اليمنية؟ وكم يبلغ متوسط مساكن المسكن وما هي حالته؟

- كم تبلغ نسبة من يمتلك سيارة واحدة فقط (لأنه لا يوجد عمليا من يمتلك أكثر من ذلك) من مجموع أعضاء الهيئة التدريسية في الجامعات اليمنية؟ وما هي موديلاتها وحالاتها الفنية؟

مؤشران فقط إذا عرفهما المرء يمكن له أن يصنف أساتذة الجامعات هل هم من الأثرياء؟ أم من المعوزين؟ وإن كانت المؤشرات لهذا الغرض كثيرة.


مسك الختام
- إلى المهتمين بمسألة إصلاح نظام الأجور، أعيدوا قراءة مقالة نشرت في صحيفة «الأىام» منذ زمن بعنوان «الأجور وسياسة الحل المبتور».

- تظل «الأىام» الصحيفة هي الأكثر رشاقة والأكثر جمالا والأكثر رصانة. أما لماذا؟

فهي الأكثر رشاقة لأنها الأولى التي تتسابق إلى قرائها ويتسابق قراؤها إليها.

وهي الأكثر جمالا لأنها تتمتع بالحرفية المتناهية، وتظهر كل يوم بثوب جديد.

وهي الأكثر رصانة لأنها تتبنى قضايا الوطن وهموم المواطن.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى