حضرموت .. متحف معماري بدون سقف

> «الأيام» محمد سالم قطن

> في حضرموت لا زال ممكناً مشاهدة، ليس فقط المباني اليمنية الحديثة، بل أيضاً الخرائب والأطلال من عهود القرون الوسطى المتأخرة، إضافة إلى مواقع معمارية أثرية تنتمي إلى عهود ما قبل الإسلام.

تحتل حضرموت موقعاً هاماً يمتد بين واجهة بحر العرب إلى حدود الربع الخالي، وتمثل المنطقة أساساً بحضرموت الداخلية ذات الوديان العديدة التي تفتح على وادي حضرموت الرئيسي. مادة البناء الأساسية هناك هي الطفل الطيني التي يصنع منها قطع القرميد الخام غير المحروق. وقريباً من الساحل يجري استخدام نفس المادة بعد إضافة الجير إلى هذه القراميد. أما في المستوطنات السكانية المنتشرة فوق الهضبة الجبلية الصحراوية فإن المنازل تبنى من الحجر الصخرى.

من خصوصية العمارة الحضرمية الشكل المشابه للبرج في منازلها، إلى المباني البرجية العتيقة التي أقيمت في كل مكان من جنوب الجزيرة العربية (علينا تذكر غمدان الأسطوري)، لقد درست المنازل الحضرمية القديمة بعناية وشمول على أساس الحفريات التي جرت في (ريبون) و(شبوة) وغيرهما. فكل هذه المباني المصنوعة من القراميد غير المحروقة تحتوي علي ملامح أساسية مميزة فهي:

1) محصنة. 2) ذات قاعدة مرتفعة. 3) جدران الدور الأول لا نوافذ لها. 4) المدخل الوحيد يوجد على مرتفع يعلو سطح الأرض. 5) الاستعمالات المحددة لكل غرفة، تخصيص الجزء السفلي من المبنى كمنطقة خدمات فقط، وتقتصر السكنى على الأدوار العليا.

فخلال المعارك الداخلية والصراعات القبلية التي بدأت بعد انهيار الدولة القديمة، ثم استمرت حتى مطلع القرن العشرين. انتقل الناس من الوديان السهلة المنال إلى المنحدرات الجبلية والصخور المنيعة ، هكذا احتمت العائلات داخل منازلها التي تشبه القلاع. الأدوار التحتية من المنازل التقليدية تلك ، كانت تستخدم كمواقع لخزن الغداء لأهل المنزل وحيواناتهم وكذلك خشب الطبخ والماء ، كما اعتبرت أيضاً المكان المناسب لإيواء الماشية.

وكانت الأدوار العليا تتخذ للسكنى، حيث يستطيع المدافعون اتخاد مواقعهم عند الحاجة خلف الجدران وعلى السطوح. أما في أوقات السلم فإنهم يتخذون السطوح كأماكن للاستجمام، فالجدران العالية والمصاطب ذات الكوى جعلت من السهل مراقبة المنطقة المحيطة وتغطيتها نارياً. أما البرج على السطح فكان موقع المراقبة .

لا توجد نوافذ على جدران الدور الأول. كما أن المدخل الوحيد للمنزل يربض في موقع متراجع إلى الداخل مما يسمح للمدافعين بمراقبة المدخل من خلال فتحة على السطح الذي يعلوه. وكذلك يتم فتح الباب بواسطة حبل خاص عندما تدعو الحاجة. كما أن كل الأدوار متصلة ببعضها بواسطة بيت الدرج الداخلي الملتوي نحو الأعلى على امتداد الجدار الخارجي للمنزل. وفيما عدا أغراض تكييف التصميم ليلا ثم تضاريس محددة أو مناطق معينة، فإن البنائين دائماً يلتزمون هذا النموذج العام للعمارة، لم تفقد المنازل والمستوطنات هذه الوظيفة الدفاعية نهائياً إلا بعد عام 1930 حيث عاد السكان إلي القرى والوديان القريبة من الطرق وزراعة النخيل والحقول.

وفي أيامناً هذه يستطيع الواحد منا أن يقود سيارته من سيئون إلى شبام ليرى المنازل والقصور والحصون منتشرة على المنحدرات خلف القرى والمستوطنات الحديثة.

تركيبات الطفل الخام تعمر طويلاً بما فيه الكفاية فبعض المنازل في شبام لها من العمر أكثر من قرنين. لكن يجب أن نعرف أن الشرط المسبق لبقاء هذه المنازل هذه المدة الطويلة يرجع إلى العناية الدائمة والترميمات الآنية التي يقوم بها قاطنوها، أما المنازل التي أهملت كلياً فقد خربت سريعاً.

وحتى في جنوب الجزيرة العربية حيث المناخ الجاف الحار وندرة الأمطار فإن الأعداء الأساسيين للطفل غير المحروق يكونون من الضراوة بمكان، فالماء يدمر الجدران ذات السطوح الملساء التي تتهالك متآكلة ، مثلما تفعل الأرضة فعلها في الأعمدة الخشبية، فيفقد المبنى دعاماته، ويمكن أن يحدث كل ذلك تدريجياً وعلى مدى لادفعة واحدة، لكن النهاية متشابهة وهي هدم ودمار المبنى كله.

وعلى أية حال، فإن استخدام الطفل كمادة بناء له عدة مزايا، فأولاً هو رخيص ويستخرج محلياً دون الحاجة إلى أدوات منجمية أو طاقة تستخدم لاستخراجه. وقراميد الطفل غير المحروق يمكن أن تصنع بسهولة في موقع البناء من قبل أية عائلة قروية. ونظراً لقلة توصيلها للحرارة وكذلك استخدام بعض الحيل التصميمية المطورة عبر القرون من تراث معماري تقليدي قديم . جعلها تؤمن مناخاً مقبولاً داخل المنازل. كما أن هذا الطفل غير المحروق مادة نظيفة ايكولوجياً، فلا يلوث البيئة عندما ينهار المبنى. وبإعادتها إلى حالتها الأصلية يمكن استخدامها مرة أخرى.

ونظراً لهذه المزايا فقد استحوذت هذه المادة، حالياً، على اهتمام خاص في أوروبا وأمريكا، حيث لم يستخدم الطفل غير المحروق كمادة بناء على الإطلاق. فالوسائل الرخيصة تزيد من الانتاجية، كما أن القليل من الإضافات اللاصقة تزيد القرميدات قوة. ووفقاً للمعلومات المقدمة من اليونسكو فإن ثلث سكان العالم يقيم في مبان وتركيبات مصنوعة من القرميد الخام. وعلى هذه الخلفية فإن العمارة الحضرمية لها ميزتها العالمية.

فقط في هذا المكان من العالم يمكن للمرء أن يرى القرميدات غير المحروقة تستخدم لنصب مبنى سكني من ثمانية أدوار، أو منارة يزيد ارتفاعها عن 50 متراً. منازل وحصون بدفاعات معقدة ضد الهجمات . تراكيب بسيطة جيدة التصميم مهيئة لجمع الماء وتفريغه، وبكل أسف، فإنه يتم عبر النشرات العلمية تلخيص هذه العمارة المدهشة أساساً في ناطحات السحاب في شبام فقط.

وقد تختلف المباني المعمارية هذه من واد إلى آخر، خاصة إذا عرفنا أن كل واد منها هو في واقع الأمر منطقة منعزلة بالكامل. فمثلاً في وادي عمد توجد تشكيلة البرج الزوجي ذي الخصر الواحد، وفي وادي (ليسر) تظهر واجهات للمباني على شكل الدرج في الجانب المواجه للوادي، أما الأشكال المميزة في وادي (ليمن) فتحتوي مصاطب عريضة فوق القاعدة بحيث تشكل جدار المنزل أو الجدران الثلاثة ما يشبه الساحة الداخلية التي تفتح باتجاه الوادي.

أما بالقرب من سيئون، فالتشكيلات المعتادة أشبه بالمكعبات، لها شرفات صغيرة (بلكونات) في كل ركن من الأ ركان الأربعة. الأمر الذي يتيح للمدافعين تغطية المنطقة المجاورة للجدران بنيران بنادقهم، فالخطة العامة لمثل هذا المبنى تشبه عجلة (سيجنار) فحصون سيئون ذات أشكال تشبه الصليب بأربعة مصاطب في الأركان و(سطيحة) تشبه الدرج في الوسط، أما في المنطقة المحاذية للبحر حيث المناخ الرطب نرى المباني تضم ممرات ذات نهاية مفتوحة لضمان سحب الهواء واستمرار التبريد داخل المنزل.

ومن بين المباني ذات النمط المحلي في البناء نجد الكثير من المباني في سيئون وفي تريم وفي المكلا تظهر تأثير جنوب شرق آسيا. ويلاحظ في هذا الخصوص الأساليب التي تزخرف بها تلك المباني والذوق المعماري في المبنى السكني التقليدي هو ذوق حديث، و بعض مكوناته كانت تخدم في الماضي الأغراض الدفاعية (نتوءات على الشرفات) كأبراج فوق السطوح، كما تزخرف مغالق النوافذ وأبواب المداخل بالنقوش والحفر تنزيلي inlaid)) من الحديد المطروق.. أما داخل المنزل فإن الأعمده والقباب والقواسم هي التي نراها منقوشة، بالإضافة إلى الفراغات بين النوافذ، أما جدران الغرف فهي عادة ما تكون مطلية بالنوره، وهي لاصق خاص له سطح أبيض أملس، ويستخدم أيضاً إضافة إلى الأبيض، اللونان الأخضر والأحمر.

كذلك هناك مجموعة منفصلة من المعالم الأثرية تشمل المتعلقة بالمياه: (الآبار ذات السقوف الشبيهة بالقبب «السقايات» وهي خزانات صغيرة لحفظ الماء على امتداد الطرقات).

وخلال عام 1990 أجرى فريق من الخبراء الروس واليمنيين أول مسح للمستوطنات الواقعة على هضبة حضرموت. هذه هي القرى المنتشرة عبر الوادي وتضم منازل ذات دور واحد أودورين ومتجمعة حول حصن صخري البناء يحتوي على تموينات الغذاء، وعمارة هذا الحصن بسيطة وزهيدة.

لن أقول شيئاً عن المباني المعمارية الثقافية:(المساجد المنارات، قباب الأضرحه) التي من بينها عدد من المباني الأثرية الهامة بالإضافة إلى أنها بعيدة المنال من التعرض إلى التلف، مع الزمن ، خاصة والمجتمعات ، هنا دائمة الاعتناء بها وتواصل الحفاظ عليها في حالة عمل.

وهذه الأيام، فإن حركة البناء المعماري مزدهرة في اليمن، وأصبح من الممكن تشييد منازل أكثر اتساعاً وأوفر راحة، فالعمارات السكنية الآن تشغل مساحات أكبر ولها عدة أدوار، كما حصلت تغييرات أساسية في التصميم ، خليط متعدد من المباني ذات الواجهات المصبوغة بالألوان، لقد ذهب نموذج (الخصر الزنبورى) الرقيق جداً لجدران الطابق العلوي ، وعلى العموم فقد أصبح المعمار سهلاً وقلت تفاصيله ، كما استبدلت الأبواب الخشبية المنقوشة بأبواب من الحديد الملحوم. كما توحدت المعايير إلى حد كبير.

المعالم المعمارية والثقافة المعمارية هي ثروة مادية للشعب والدولة، ومن أجل الحفاط على هذه الثروة يتطلب أولاً إجراء المسح ثم اختيار الموضوعات الأكثر أهمية بتعيين حالتها وقيمتها التاريخية وأن تؤخذ قياساتها ويجري تصويرها.

كما أن الخريطة العامة للمعالم، وتوصيف كل منها سيقود إلى إنجاز خطة عمل عامة وإعداد التوصيات والتوجيهات المتعلقة بطرق استخدام كل مبنى على حدة ، وكذلك عمل مسارات سياحية ونشر المطبوعات حولها للدارسين المتخصصين، كما للجمهور. وتجهيز أشرطة فيديو والبومات صور، الأمر الذي يتيح توجيه الأنظار إليها داخلياً وخارجياً، كما أن المباني المهجورة التي تمتعت بقدر من العناية في الماضي وظلت سليمة نوعاً ما، يمكن لها بعد أن تحصل على الترميم الضروري أن تتحول إلى مكاتب وإدارات عمومية ومراكز للشباب ومتاحف محلية.. إلخ. الشيء الذي يؤمن مستقبلاً لهذه المباني، وبعض الأمثلة عن ذلك تجدها في سيئون والمكلا، فبعض المباني هناك يمكن أن تتحول إلى فنادق صغيرة لإيواء السواح أو إلى مراكز بيع للمنتجات المصنعة بواسطة الفنانين المحليين، تساعد على الأقل في الحفاظ على الحرف الشعبية. كما أن الإنماء السياحي يجب أن يكون الطريق الحقيقي للحفاظ على الموروث التاريخي والمعماري للبلد، ففي الوقت الحاضر نجد السواح تقتصر زيارتهم أساساً على مدن سيئون وتريم وشبام، وهذه الأخيرة، أي شبام ، هي التي دخلت مؤخراً مع صنعاء ضمن قائمة اليونسكو للمورث المعماري العالمي.

كذلك فإن إنماء السياحة سيسمح بإحياء وحفظ بعض الموضوعات المتميزة التي استكشفت ضمن مجرى المسح المقترح، فعلى سبيل المثال ، فإن وادي دوعن يحتوي على معالم من عهود مختلفة من تاريخ حضرموت، فقريباً من مستوطنة (المشهد) كشفت الحفريات الأثرية القرى القريبة لريبون، أطلال المعابد، المدافن الصخرية. أما على مبعدة بضعة كيلومترات إلى الجنوب فتوجد على المنحدرات الوعرة للوادي المستوطنات الصحنية للـ (الهجرين) و(القزة) وإلى جوار الأخيرة أي القزة تم اكتشاف مستوطنات كهفية بدائية وذلك لأول مرة في جنوب الجزيرة العربية.

وفي كل واد تقريباً، توجد بغزارة معالم مدهشة من الماضي القريب . ففي وادي الكسر جرى هجر تدريجي لقلاع محصنة، شراخ، ادجلانيا، وقلعة ثالثة أخرى في مستوطنة حوره، وكذلك في عمق وادي ليسر توجد القلعة الضخمة لآل بقشان، والتي تراها بازغة في انتصاب وكأنها في إحدى قصص جنيات شهر زاد.

وفي غرب حضرموت ، في وادي رخية، ووادي دهر، توجد أبراج عالية من القرميد الطيني الخام لم يهجرها ساكنوها إلا قريباً، وعلى الهضبة القريبة (سوط باتيس) توجد حصون صخرية لمستوطنة (سده) ولهذا فيمكن اعتبار حضرموت كمتحف بدون سقف. وفي إطار الحفاظ على المعالم الأثرية علينا أن نفكر أيضاً في مصير كل موضوع أثري علي حده، وفي العادة تتم إعادة تغطيتها تحت الأرض من جديد، بعد أن تكشف وتوصف، ثم تترك تحت عوامل الهدم مفتوحة للتخريب. وبالنبسة للمعالم الأكثر أهمية يمكن حمايتها بعمل سقف لحفظها، وإتاحة إمكانية زيارتها لاحقاً. وهذا الإجراء معروف جيداً. وقرب (ريبون) سيكون من الأفضل إنشاء قاعة عرض تعرض فيها المكتشفات الأثرية والجلاميد المنقوشة وصور للمباني القديمة المرممة وللمستوطنات.

إن أساليب الحياة الحديثة عندما تغزو بلداً عريقاً، بالإضافة إلى توفر مواد البناء الجديدة، ينتج عنها ضياع أساليب البناء القديمة والحرف الشعبية والتقاليد الثقافية العريقة.

كما أن المواد الجديدة يمكن أن تضر بالايكولوجيا لتدخلها في التوازن الهش بين الناس وبيئتهم . الدولة مطلوب منها دعم استخدام الأساليب التقليدية والمواد المحلية لأشغال البناه. وعن طريق توضيح أهمية هذه الثقافة الأثرية الوطنية لعموم الشعب وشرح ضرورة حمايتها تتعزز المساهمة في الحفاظ على الموروث الثقافي المعماري الفريد لهذا البلد.

كتبه في حينه الآثارى الروسي يو . ف . كوزهين ، الذي كان ضمن البعثة التنقيبية

عن الآثار المعمارية

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى