خصوصية

> محمد عبدالله الموس

>
محمد عبدالله الموس
محمد عبدالله الموس
يكثر - وتحديداً في مواسم الحصاد المتواضع، كالقمم العربيةـ ترديد نغمة «خصوصية كل دولة» عند الحديث عن الإصلاح، أو التغيير إن شئنا الدقة، في البلاد العربية، ذلك الذي أضحى سمة عصرية بقدر كونه حاجة داخلية، وحين يحاول أحدنا الوصول إلى «كنه» هذه الخصوصية وسماتها فإنه يعود بخفي حنين، ويرجع ذلك - ببساطة- إلى أن هذه الخصوصية ليس لها وجود في الأساس في زمن الفضاءات المفتوحة والمصالح المتشابكة وتلاقي وتمازج الثقافات بصورة أصبح فيها الكون «قرية» بكل معنى الكلمة، بفعل ثورة المعلومات التي «فتحت المستور» وجعلت الشفافية سمة للعصر تستحيل السباحة ضد تيارها.

في عالم اليوم القائم على مبدأ «حرية التجارة» أصبحت المصالح عابرة للحدود، وأصبح الحديث عن الاقتصادات المقفولة ضرباً من الخيال، فلا يستطيع اقتصاد أن يعيش بمعزل عن اقتصاد البلدان الأخرى، ولم تعد الحدود فواصل منع، وإنما هي نقاط وصل، ولم تعد الشركات ذات لون أو جنس واحد، فقد أصبحت متعددة الجنسيات والألوان والثقافات، وحتى القوانين الاقتصادية في أي بلد صارت ملتزمة بقواعد موحدة وتقترب تدريجياً من القانون العالمي الواحد، ومنظمة التجارة العالمية وقواعدها الكونية ليست آخر المطاف، ولم يعد نشاط الشركات شأناً داخلياً، أو(خصوصية) كما يحلو للبعض تسميتها، بما في ذلك «الكبار»، مثلاً، ما زال الخلاف الأوروبي الأمريكي قائماً حول دعم شركات صناعة الطائرات الأوروبية «إيرباص» والأمركية «بوينج، حيث تتهم أوروبا الحكومة الأمريكية بدعم «بوينج» من خلال قيام (البنتاجون) بشراء طائرات منها بأسعار تفوق الواقع، فيما تتهم الحكومة الأمريكية أوروبا بدعم شركة «الايرباص» وتهدد بعرض الأمر على منظمة التجارة العالمية.. ومنذ مدة ليست بعيدة منعت الولايات المتحدة الأمريكية «تركيا» من بيع طائرة «بوينج» مستعملة للحكومة الإيرانية.

بجملة أخرى، لم يعد هناك شيء في عالم الاقتصاد يحمل صفة «الخصوصية» بما في ذلك تجارة الممنوعات وغسيل الأموال وطرق مكافحتها.

ولأن الاقتصاد، في مختلف أوجهه، هو المحرك الأساس لباقي جوانب الحياة، سياسة وتعليماً وثقافة وما في حكمها، فمن الطبيعي أن تخضع له وتصاغ وتهذب بصورة تمكنه من الحركة، وهكذا أصبحت وسائل ومناهج التعلم والتعليم والثقافة عموماً، شأناً كونياً، وأصبح العالم بلا استثناء يستوعب هذا الأمر ويتعامل معه، حتى أن منهجاً دراسياً يقدم في مدرسة بأحد الجبال النائية يراعي ثقافة ونمط حياة آخر في الجهة الأخرى من الكرة الأرضية.

ولم تعد الجيوش وأنظمة تسليحها «سراً أو شأناً داخلياً» أو حتى ثنائياً بين دولتين، فقد رأينا دولاً تتراجع عن بيع أسلحة لدول أخرى «بفرمان» المصالح المتشابكة مع المصالح الأكبر.

وكذلك الحال في العلاقات بين الدول، فالسفارات بأسوارها وأساليبها العتيقة لم تعد هي قنوات التواصل الوحيدة بين الدول والشعوب، فقد تشعبت هذه العلاقات لدرجة أن أصبحت منظمات وهيئات وحتى أقسام العلاقات العامة في الشركات تقوم بأعمال اتصالات عابرة للحدود، تشكل رديفاً لعمل السفارات.

ولم تعد رسائل إعلامنا «الحكومي» هي المرآة التي يرانا العالم من خلالها مهما بالغنا في تجميل القبيح، فهم يروننا كما نحن في الواقع بفعل ثورة المعلومات والاتصالات وتشعب العلاقات، ويصنعون تصوراتهم على أساس رؤىتهم هذه. والتقارير الدورية عن حقوق الإنسان، التي يجلدون بها ظهور الحكام، وتصل إلى ممارساتنا في مراكز الشرطة وغياهب السجون، أبلغ دليل على ذلك.

بعد كل ذلك، ماذا بقي من خصوصية أصلاً، قبل الحديث عن كونها تشكل عائقاً في وجه مجاراة العصر وإحداث الإصلاح اللازم للمواكبة، إلا إذا كان أنصار هذه (الخصوصية) يعتبرون العلاقة بكرسي السلطة «من الخصوصيات». فقد تعاملنا مع العالم اقتصاداً وثقافة دون الادعاء بأن هناك خصوصيات تمنع هذا التعامل.

إن من الأجدى والأسلم لبلداننا وشعوبنا التعامل مع حاجات الشعوب المستمدة من متغيرات العصر، على قاعدة المصالح المشتركة مع الغير وإعمال مبدأ أن «الخلاف لا يفسد للود قضية» بدلاً من القاعدة العربية طويلة الأمد القائمة على أساس «أن الخلاف لا يُبقي للود بقية» فزمن الفضاءات المفتوحة والمصالح العابرة للحدود لم يبق خصوصيات تمنع لحاقنا بقطار العصر قبل أن تدهسنا عرباته.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى