محاولة التجربة الشعرية عند (ابن سلمان)

> رياض عوض باشراحيل

>
رياض عوض باشراحيل
رياض عوض باشراحيل
(أهازيج على ربى دوعن) هو الإصدار الشعري الثاني للشاعر سالم عبدالله بن سلمان.. إذ عانق النور منذ نحو عامين إصداره الأول الموسوم بـ (العشق في حضرة الكلمات). وشاعرنا من مواليد رباط باعشن بدوعن حضرموت في العام 1948م، لذا فدوعن هي مسقط رأس شاعرنا سالم عبدالله بن سلمان والبيئة التي نشأ فيها وترعرع، والأمكنة التي شهدت ملاعب طفولته وصباه.. اكتحلت عيناه بجمال وجنان وجبال دوعن الخضراء ومشاهدها الطبيعية الفاتنة، فانعكست في مرآة شعره، واتخذ ابن سلمان من جزئياتها وسائل لتعابيره، وجعل من مسمياتها معالم لشعره دلت على صدق انتمائه وعمق العلاقة النفسية العاطفية التي تربطه بمسقط الرأس كمعادل موضوعي، ورمز لوطنه اليمني.


محاور تجربته الشعرية
بالنظر إلى ديوانه ابن سلمان (أهازيح على ربى دوعن) تستوقفنا أربعة محاور شعرية رئيسية هي:


أولا: الوطن
لقد تجلت علاقة الشاعر بالوطن في أبهى صورها، فالوطن هو كيان الشاعر وهو طفولته وصباه، وهو تاريخه وحاضره ومستقبله وكل حياته، إنه أغنيته وقيثارته العذبة.

«وإنك لي موطن ومملكة في صباي / وأغنية عذبة ترددها شفتاي»

والوطن وعاء تمتزج فيه لحظات الفرح والحزن والتأمل والعشق بوصفها لحظات شعورية إنسانية، ومن هنا تنشأ رابطة الاقتران بين الشعور والذاكرة الإنسانية والأرض.

«كعادتك الآن يا قريتي/ تذوبين عشقا / تضجين عرساً / وتنتشرين مدى من أغاني/ ولي يا روائع أرضي/ يا روائح أرضي/ ويا نكهة الطين/ لمّا يبلله مطر الصيف حينا وحين / هوى جامح مطلق للعنان».

ولا تخطئ العين النظر إلى فرح الشاعر وانتشائه بسعادة غامرة وهو يغني للتل والجبل، والهواء والماء، والسيل والليل، وغيرها من المعالم المكانية للأرض.. وجميل وصف الشاعر وتشخصيه للسيل في قوله:

«إنه السيل/ ما عهدنا غير سطوته/ واندهاشاته/ وانثيالاته/ فوق كل حصاة/ مشاكسة وصفاه/ وله الأرض تهتز من فرح/ والحجر والشجر/ والنخيل المتاخم كل اتجاه..». فللوطن حضور عميق وراسخ في كيان الشاعر ووجدانه وفي شعره.


ثانياً: التراث
وهو العمق الثقافي والروحي للمبدع، وتأكيد للهوية والانتماء والموقف الإنساني الصادق من الوطن وقضاياه .. لذلك نهل ابن سلمان من نهر تراثه العذب بقدر ما يفيد ويضيف إلى تجربته، وهو بذلك يفتح ميراثاً وجدانياً ومعرفياً مشتركاً مع الجمهور يوقظ به الذاكرة الوجدانية والجمالية الجمعية تهيئة لاستقبال قصيدته والتماهي معها.. ففي أنشودته «دوعن» وعند الحديث عن الدان والغناء الشعبي يقف الشاعر ليضمن أنشودته أهزوجة شعبية من أهازيج تراث موسم الصراب بدوعن، في توظيف فني يتسلل إلى النسيج الشعري ليجعل من حضوره ضرورة يتطلبها السياق ليغتني بها ويكتنز بالدلالة.

«وما بين متسع الوادين/ تغنيت/ شاركت كل المغنين بالدان في نشوة/ وأطلقت صوتي إلى منتهاه/ الا يادان دانه ألا يادان دانه (دخلنا في ربوعة وعاد البسط ماشيüü ويا صالح غلب ما عطانا ع قياسي)».

أو استدعائه أهزوجة أخرى في أبيات من الشعر الشعبي تقول:

«باشل نفسي وباروح لاجات نوح مع سييانüü تبا الكرع قال باصره نسم على البدو والحلانüü سقه بساتين في الوادي ذا الحين يا رعدي الحنان»

استطاع توظيفها في مكان ما من قصيده (من دفتر الذكريات) بصورة متفاعلة مع بنية النص، فأصبح التناص عنصرا فاعلا في البنية الشعرية مما أدى إلى ازدياد إيحاء النص واكتنازه بالدلالات لارتباطه بخصوصية المكان. ويتضح من هذا التضمين التراثي ارتباط شعر ابن سلمان بجذوره التراثية من شعره الشعبي وأهازيجه الغنائية في تجديد إبداعي بين التراث الشعبي وشعر التفعيلية، أي ما بين التراث والمعاصرة.


ثالثا: الحب
لا يزال الحب يسيطر على العلاقات الأصيلة بين الناس، وينسج بروده من حرير العواطف، ولا تزال أنفاسه تعطر الأرواح، وقد ترنم ابن سلمان بالعشق في حضرة الكلمات، فالعشق عنده هو الحياة وحضوره دليل على أن الشاعر ما زال قادرًا على العطاء، ففي قصيدة (احتفالية الوصول) يجنح الشاعر إلى القرب واللقاء والوصال فيقول: «وجئت إليك ممتطياً / جنوح الشوق والرغبة/ تحث خطاي/ نحو سمائك الأولى ونحو ربيعك الأندى/ مشاعر عاشق / جياشة عذبة»، وينشد الشاعر العاشق ألحان ذكرياته العذبة في مسقط الرأس .. ذكريات الطفولة ببراءتها والصبا بشقاواته والشباب بأحلامه الوردية وطموحاته ويفوح عبق الحب والذكريات: «طفولته بكل ثرائها الفطري ماثلة/ هنا وهناك/ ناعمة/ وصعبة/ هنا كانت ملاعبه/ تفوح شذى/ ويسكر عطرها الفواح لبه/ وتلك على مدى الوادي تراءت/ له الأشياء هامسة/ تحاوره/ تنادمه/ تعيد له جلال الأمس والرهبة»

وعند فراق الأحباء والرحيل كيف تصبح رؤيا الشاعر:

«ويصبح كل شيء هاهنا/ يدل عليك/ يشير إليك/ يشحذ فيك ذاكرتي وأشتات الخيال/ آه ما أدهى الرحيل/ وما أقسى افتراش الصمت/ أياماً وساعات طوال».


رابعاً: الحنين
وهو استرجاع عاطفي للماضي، والحنين إلى المكان والتشوق إليه منبعاً ثراً من منابع الإلهام الشعري، الذي يعكس الشاعر من خلاله روح الماضي وصوره المختلفة، ويعد هذا الديوان في محصلته الكلية حنيناً إلى الماضي وإلى مسقط الرأس، وشاعرنا ابن سلمان من شعراء الوجدان يذوب وداً وحناناً، ورقة عاطفة،. ووفاء وحنيناً:

«وهذا الحنين يعادوني بين حين وحين/ فيشهق بالشوق قلبي ولا يستكين/ إذا ما استطال بي البعد عدت إليك/ حططت الرحال لديك/ ومتعت عيني برؤيا النخيل».

وحديث الذكريات هو لون من الحنين إلى الماضي الجميل في مواجهة الواقع المأزوم، ولا يزال شاعرنا يترنم بنخلة الرباط في دوعن:

«أيا نخلة في ربوع الرباط/ كلما الصبح خاصرك/ وسالت على دربك الشمس ناصعة/ أوغل الشوق نبضاً بقلبي/ وأسلمني رعشة من حنين».

تجربة الشاعر في رؤيا د. البار

وقد تجلت للدكتور عبدالله حسين البار مظاهر الحب الصادق وتجليات العشق الصوفي لشاعرنا من إبداعه وكان محقاً في رؤياه عندما قال ببصيرة في مقدمته لديوان (العشق في حضرة الكلمات):«ينهل صوت الشاعر ابن سلمان في هذه الصفحات مواقف من الحياة ورؤى لها، ويفيض وجداً وحنيناً مع لحظات الإشراق الروحي، ويستغرقه الألم على فراق الأحبة، فيكون خلاصة ذلك كله ديوان شعره الأول». والآن وبعد صدور ديوانه الثاني فقد تجلت خلاصة د. البار نفسها على قصائد الديوان الثاني وترجمة محصلته وستظل تعبر عن شعر الشاعر في مراحله المختلفة - كما تبدو لي - لأن تلك التعابير القليلة للدكتور البار هي قراءة متأنية وخلصة أمنية لتجربة الشاعر من خلال ديوانه الأول وهي ليست (رؤية)، ولكنها (رؤيا) عميقة صادقة للتجربة الشعرية عند شاعرنا استشرفها الناقد البار من ديوانه الأول. وهكذا كان الشاعر محكوماً بقدره، وقدره أنه ولد عاشقاً لأهله ووطنه ومحبيه، فاستهل حياته الأدبية بالعشق في حضرة الكلمات تم ضاف إليه (أهازيج على ربا دوعن) وهو عمل أدبي ووطني في آن معاً، وقد تجلى الشاعر به في التعبير عن عشق الوطن والأهل والدار، وأهل العشق لا يذوقون طعماً للحياة إذا ابتعدوا عن مصادر الحب.. وذلك ما عبر عنده قديماً أبو تمام حين قال:

كم منزل في الأرض يألفه الفتى ** وحنينه أبداً لأول منزل.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى