> محمد فارع الشيباني

محمد فارع الشيباني
محمد فارع الشيباني
عادة ما يردد إخواننا في مصر الحبيبة (مصر ولّادة) وذلك عندما يفقدون أحد عظمائهم في مجال السياسة أو الفن أو الأدب للدلالة على أن مصر التي أنجبته قادرة على إنجاب غيره، لأنها مثل الأم القادرة على الاستمرار في إنجاب العظماء والعباقرة. وهذه المقولة صحيحة فعبر التاريخ ظلت مصر ولادة .. ونحن أيضاً يمكننا أن نقول عدن ولادة، فقد أنجبت خلال المائة سنة الماضية سياسيين وفنانين وأدباء وقادة، في وقت كانت الجزيرة العربية تغط في الظلام. ما علينا ولنترك ذلك للمؤرخين والمختصين، ولكن الذي يهمنا هو أن منظمات المجتمع المدني ظهرت في عدن في بدايات القرن الماضي، القرن العشرين، ولقد ظهرت تلك المنظمات من منتديات عدن التي كان يلتقي فيها المثقفون، فمن اللقاءات التي كانت تتم في المنتديات الكثيرة التي كانت منتشرة ظهرت الأحزاب الأولى وتنظيمات المجتمع المدني الأخرى وكذلك الجمعيات التي كانت تحمل أسماء المناطق التي نزح منها سكان عدن، وأثناء الحكم البريطاني لعدن الذي كان يشجع قيام تلك التنظيمات الاجتماعية والسياسية أكثر مما أصبحت تفعله الدول بعد الاستقلال .. ولا أريد أن أدخل هنا في بحث تاريخي عن نشوء تلك المنظمات وأسمائها وتاريخها وقادتها، لأنه أولاً ليس من اختصاصي ويحتاج إلى جهد لست قادراً عليه، وثانياً أن الأخ نجيب يابلي يبذل جهداً كبيراً يشكر عليه في هذا المجال، ولكن ما أريد أن أقوله إن من داخل تلك المنتديات القديمة نشأت الأحزاب الأولى والتنظيمات السياسية، ومنها خرج القادة الذين استطاعوا أن يقودوا الجماهير- والكل يعرف ذلك - وحصل ما حصل، واستقلت عدن وحصل أيضاً ما حصل، وبعد الاستقلال اندثرت أغلبية المنتديات التي كانت سائدة، وما بقي منها أصبح كالأشباح أو بالأصح كالأطلال نذكر ما كانت عليه، ولكنها أطلال لا تفيد ولا يستفاد منها.

أنا لا أؤمن بأن التاريخ يعيد نفسه، لأني أؤمن بفلسفة الفيلسوف اليوناني القديم «هيرقليطس» ومقولته المشهورة «لم أستحم في نفس النهر مرتين»، ولكن رغم اعتقادي بذلك، فإن ما يحصل الآن في عدن يشبه ما حصل في الماضي، فقد انتشرت مرة أخرى المنتديات في عدن وبدأت تتكاثر، وأصبح الناس فيها يناقشون أمور حياتهم اليومية .. يناقشون كل شيء من اقتصاد وسياسة وفن وأدب حتى تسعيرة المواد الغذائية، ويأتي هذا بعد سنوات من الجمود والخمول والسكوت، فبعد الاستقلال كممت الأفواه فسكت الناس ورضوا بما قدر لهم، ثم جاءت الضربة الكبرى أو تسونامي عدن وهي حرب 1994م، فقد تلقت عدن ضربة أكبر من أن تتخيل، أحرقت ودمرت ونهبت ووصل الحال إلى نهب مراوح المدارس والكراسي التي يجلس عليها الطلبة، وكانت الضربة كبيرة فانغلقت عدن على نفسها ودخل سكانها كلٌّ إلى محارة اخترعها لنفسه، ولاذوا بصمت مطبق - وإن لم تفرضه السلطة التي جاءت بل فرضه الزلزال الذي حصل - ومرت السنوات رغم قصرها طويلة وحزينة ومؤلمة، ولكن «عدن ولاّدة» امتصت كل ذلك عبر سنوات الصمت والقهر، ولأن الأنهر الكبيرة لا تجف أبداً عادت المياه تتدفق في نهر عدن، وقليلاً قليلاً ظهرت المنتديات هنا وهناك في كريتر والمعلا وخورمكسر والمنصورة والشيخ عثمان ودار سعد ومدينة الشعب والبريقة، ظهرت في البداية كأماكن للمقيل ولقاء الجيل الجديد مع الجيل الذي عاصر الهوائل منذ الاستقلال إلى يومنا هذا .. جاء جيل يريد أن يعرف لماذا يعيش هذه الحياة البائسة ومن المتسبب في ذلك، والتقى مع جيل ما زال يتساءل لماذا حصل كل ذلك؟ لماذا حصلت كل تلك الآلام؟ وهل كان من الممكن تفادي كل ذلك؟ ومن المسؤول عما حصل؟ والتقى الجيلان في منتديات عدن وجهاً لوجه يتحاورون ولكن بدون عنف في محاولة يائسة للفهم، ثم وضع تصور عما يجب أن يكون، وأصبحت هذه المنتديات تناقش كل شيء وبدون محرمات أو خطوط حمراء، ويلتقي فيها من يعتقدون بأفكار سياسية مختلفة وأحياناً كثيرة متعارضة ولكنهم لا يتقاتلون بل يتناقشون وبشكل حضاري، بحثاً عن حلول ترضي الجميع، وهذه هي الروح الحضارية .. روح المجتمع المدني. وهنا يظهر السؤال الكبير هل تنشأ من هذه المنتديات أحزاب سياسية جديدة وقادة سياسيون جدد يقودون البلاد إلى بر الأمان مستفيدين مما حصل من أخطاء في الماضي؟ هل التاريخ يعيد نفسه رغماً عن الفيلسوف «هيرقليطس»؟ أنا شخصياً أعتقد أن التاريخ لا يعيد نفسه، قد يظهر بصورة مشابهة لما مضى، ولكنه يحمل أشياء ومفاهيم جديدة، ولا تنسوا أن «عدن ولاّدة».