- صراع الإقليم وأوهام الحل الخارجي
في خضم تسارع التوترات الإقليمية، خاصة مع تفجّر المواجهة بين إسرائيل وإيران واتساع رقعة الصراعات بالوكالة، تُطرح مجددًا فرضيات اختزالية تروّج لفكرة أن حل الأزمة اليمنية مرهون بانكسار طهران أو تراجع نفوذها الإقليمي. هذا التصور، رغم ما يبدو عليه من منطقية سطحية، يُغفل الطبيعة المركّبة للأزمة اليمنية، ويختزل الحوثيين في كونهم مجرد أداة بيد إيران، متناسيًا أن الجماعة الحوثية نشأت كمشروع سلطوي أيديولوجي مكتمل، بمرجعية دينية وسلالية، تمتلك بنيتها التنظيمية والعسكرية المستقلة، حتى قبل تعزيز علاقتها بطهران.
إن الرهان على هزيمة إيران كشرط مسبق للسلام في اليمن، أو كعامل حاسم في إعادة التوازن الداخلي، هو إعادة إنتاج لوهم قديم أثبتت الوقائع فشله. فقد أثبتت التجربة أن الأزمات الوطنية لا تُحل عبر استيراد الانتصارات أو الهزائم من الخارج، وإنما من خلال مواجهة الذات، ومعالجة الاختلالات البنيوية التي أطاحت بمشروع الدولة منذ وقت مبكر.
ثم إن تعليق فشل الدولة اليمنية فقط على شماعة التدخل الإيراني يُعد نوعًا من التنصل من المسؤولية الذاتية للقوى السياسية اليمنية، الحاكمة والمعارضة على حد سواء، والتي شاركت – بصراعاتها الصغيرة وتغليبها للمصالح الفئوية – في تقويض بنية الدولة، وتمزيق النسيج الوطني، وخلق الفراغ الذي ملأته الميليشيات. فإيران لم تصنع الأزمة، بل وجدت بيئة مهيأة للاستثمار في الانقسام اليمني، في ظل سلطة ضعيفة، ومعارضة مشتتة، ومجتمع دولي تعامل مع اليمن كملف أمني لا كدولة ذات حق في النهوض.
- معضلة الاستقطاب وفقدان القرار الوطني
تتعمق معضلة السيادة اليمنية كلما اشتد الاستقطاب الإقليمي والدولي. ففي مناخ الانقسامات الحادة، يصبح القرار اليمني عرضة للارتهان والاصطفاف غير المشروط خلف مشاريع خارجية لا تضع مصلحة اليمن في صدارة أولوياتها. إذ لا يمكن لأي محور خارجي – مهما اختلفت نواياه أو شعاراته – أن يحل محل الإرادة الوطنية الجامعة.
فالتماهي مع المشروع الإيراني لم يقدّم لليمن سوى مزيد من العزلة والانغلاق والتفكيك، كما أن الانجرار الأعمى خلف محاور مناوئة دون رؤية استراتيجية واضحة، أو شراكة حقيقية قائمة على الندية، يُعيد إنتاج التبعية ذاتها بثوب مختلف. والمطلوب ليس الانغلاق أو الحياد السلبي، بل انخراط ذكي ومسؤول يعيد الاعتبار للقرار اليمني الحر، ويعيد تعريف العلاقة مع القوى الإقليمية ضمن إطار المصالح المشتركة لا التبعية القسرية.
إن التحدي الحقيقي لا يكمن في اختيار المحور الأقل ضررًا، بل في استعادة زمام المبادرة، وصياغة خطاب وطني جديد قادر على التمييز بين التكامل الطوعي والانخراط التابع. وبينما يبدو الانفتاح على الخليج خيارًا جيوسياسيًا بديهيًا، فإن هذا الانفتاح يجب أن يُدار بشروط تحفظ السيادة، وتمنع استنساخ التجارب الفاشلة في الارتهان.
- اليمن والخليج: ضرورة الاندماج وسياسة عدم التفريط
لا يمكن بناء مشروع وطني حقيقي في عزلة عن المجال الجغرافي والسياسي والاقتصادي الطبيعي لليمن، والمتمثل في منظومة الجزيرة والخليج. فاليمن، بجغرافيته البحرية الاستثنائية، وحدوده الممتدة مع السعودية وعُمان، وعمقه التاريخي والحضاري المتداخل مع محيطه، ينتمي عضويًا إلى هذا الفضاء، ولا يمكن فهم استقراره أو إعادة بناء دولته خارج هذا السياق.
غير أن هذا الانتماء لا يعني التسليم بشروط غير عادلة، أو تهميش الهوية الوطنية لصالح أدوار وظيفية مفروضة. بل ينبغي أن يُبنى هذا الاندماج على قاعدة احترام الخصوصية اليمنية، وتفهم تعقيدات بنيتها الاجتماعية والسياسية، ودعم جهود النهوض لا فرض الوصاية. فاليمن يمكن أن يشكّل عنصر قوة في الخليج، لا عبئًا عليه، إذا ما أُعيد تمكينه من قراره ومؤسساته وثرواته.
إن صياغة شراكة خليجية يمنية تقوم على تنمية متكاملة، وتكافؤ الفرص، وتعزيز البنى التحتية، وتحفيز التكامل المؤسسي التدريجي، تمثّل المسار الأمثل لحماية السيادة اليمنية من الوقوع في شَرَك المحاور المتصارعة.
- من ساحة تنازع إلى ساحة بناء: السيادة كمشروع وطني جامع
تواجه اليمن اليوم فرصة تاريخية لإعادة تعريف مفهوم السيادة بوصفها مشروعًا للتحرر من الارتهان لا مجرد شعار فارغ. فالسيادة ليست مجرد غياب التدخل، بل قدرة على المبادرة، وتكريس العدالة، وتحقيق التنمية، وإرساء أسس دولة حديثة تستند إلى المواطنة المتساوية والمؤسسات الفاعلة.
المطلوب ليس فقط تحرير الأرض، بل تحرير الإرادة، وتحديد المصلحة الوطنية بعيدًا عن ثنائيات الاستقطاب القاتلة. يجب أن تعود اليمن إلى ساحة الفعل، لا أن تبقى ساحة لتصفية الحسابات. وهذا يتطلب نضجًا سياسيًا، وشجاعة فكرية، وخطابًا جديدًا يزاوج بين متطلبات الاستقلال وضرورات الانخراط في محيطه الخليجي.
في لحظة تعاد فيها صياغة خرائط النفوذ في المنطقة، فإن اليمن إمّا أن يبني دولته ومكانته كشريك في الخليج، أو أن يُستهلك كساحة استنزاف دائمة. والخيار بأيدي اليمنيين أولًا وأخيرًا.