الحد الأدنى للأجر.. الدرك الأسفل للقبر

> محمد عبدالله باشراحيل :

>
محمد عبدالله باشراحيل
محمد عبدالله باشراحيل
ترددت كثيراً قبل كتابة هذ المقال بهذه الطريقة، التي قادتني إليها قراءاتي ومخيلتي التي تبعتها، فقررت أن أبدأها بتصوير حوارين نابعين من واقعنا المعاش، مع تضمين المقال تعليقات مبنية على جوانب علمية وتحليلية، أما الحوار الأول فكان بين مسؤولين إثنين بينما الحوار الثاني بين مواطنين فقيرين، والغرابة والتناقض في تباهي كل فريق بما هو عليه من حال، ففي الحوار الأول يتباهى مسؤول أمام صاحبه بأنه يملك قصراً ضخماً في صنعاء وفيلا في عدن ومزرعة في حضرموت وأربع سيارات جديدة وبضعة ملايين من الريالات في البنك، وأنه حقق ذلك من جهده وعرق جبينه خلال العشر السنوات الماضية التي عمل فيها مع الدولة، فسأله المسؤول الآخر: هل هذا كل ما عندك فقط؟.. فرد عليه: هذا كل ما أملك وأنت ماذا معك؟ فأجابه: باختصار أضعاف أضعاف ما عندك، منها عمارتان ضخمتان في صنعاء ومزرعتان في محافظة أبين ومجموعة قطع استثمارية في عدن وحضرموت وحساب بالدولار في الخارج، فاستغرب صاحبه سائلاً: ومن أين لك كل هذا فأنت تعتمد فقط على مرتبك؟ فرد عليه هذا من تعبي وجهدي ومن عرق جبيني مثلك، أما الدولارات فحصلت عليها كهدايا من أهل الخير الكرام، ولو عرفت ما عند صاحبنا الثالث لقلت أنني فقير بالنسبة له. فصاح زميله قائلاً: «قسماً بالله أنا أفقركم جميعاً».

أما الحوار الثاني فكان بين مواطنين إثنين فقيرين، فلم يبدءا الحوار بماذا عند الآخر لأن كل منهما يعرف ما لدى صاحبه، فبدأ الأول بسؤال زميله الفقير: ماذا تغديت اليوم؟ قال: كالعادة روتي أو خبز مع صانونة هواء وهذه الأيام يوم نتعشى ويوم ننام بلا عشاء أنا والعائلة، نحن نصبر بما كتبه الله لنا ولكن المشكلة في الأطفال، خلها على الله يا أخي وربنا كريم. وسأله: وماذا تغديت أنت اليوم؟ فأجابه رز ولحم، فاستغرب زميله قائلا: رز ولحم يا مفتري ونحن في آخر الشهر وقد نسينا شكله، هل هبرت (سرقت) أحد؟ فقال له: استغفر الله يا أخي تعرف أن صاحبك ليس من هذا النوع، والمسألة أنني كنت معزوماً على غداء بمناسبة زواج أحد الأقارب وعلى مستوى محدود جداً، ولعلمك .. لم أذق طعم اللحم منذ عيد الأضحى الماضي، والذي حصلت عليه حينذاك من أهل الخير والحمد لله، لكن المشكلة في ملابس وصنادل الأولاد المقطعة، وواحد منهم لا يريد أن يذهب إلى المدرسة بهذه الملابس، وأنت تعرف صاحبك إذا حصل حق الغداء ما حصل حق العشاء، ولا أدري إلى متى سيبقى الحال على ما هو عليه، وصحيح ما قاله سيدنا علي بن أبي طالب ] «لو كان الفقر رجلاً لقتلته» لكن تعرف يا صديقي نحن أغنياء بالنسبة للناس الذين أحوالهم أسوأ بكثير من حالنا، فمنهم من يأخذون بقايا الأكل من الزبالة ويأكلونها نتيجة العوز والحاجة، وللضرورة أحكام، أحمد ربك على نعمه التي لا تحصى، وخلها على الله.

هذان الحواران قاداني إلى تعليقين، أولهما يتعلق بالفساد المستشري في الأجهزة الحكومية، وثانيهما خاص بخطوط الفقر، فبالنسبة للأول فلن أدخل في تفاصيل مسببات الفساد، التي يأتي في مقدمتها التسيب وعدم المحاسبة وضعف الرقابة، ولكني سأكتفي بمقولة حكيمة منسوبة لأحد الملوك العرب المتوفى قبيل سنوات والمعروف بذكائه ودهائه وحنكته وتجربته الطويلة في الحكم، وتتلخص هذه المقولة في «أن الوظائف الحكومية الحساسة والمرتبطة بالجوانب العسكرية والأمنية والمالية تشبه ماءً نقياً صافياً يوضع في حوض أو بركة فيلاحظ صفاؤه، فإذا بقي الماء فترة طويلة دون تعديل أو تغيير، تعفّن وتعشعشت عليه مجموعة طحالب فاسدة تخلق بيئة ملوثة تضر بصحة المجتمع، لذا يجب تغيير ذلك الماء من وقت لآخر كي يحافظ على نقائه وصفائه».. رحمك الله أيها الملك، فقد صدقت القول، فمثل هذه الوظائف التي يبقى فيها أصحابها مدة طويلة من الزمن تخلق مجموعة شلل وتكتلات فاسدة تتجذر ويصعب اقتلاعها إذا تُركت دون رقابة ومحاسبة، ولا يستميت أصحابها في الدفاع عن مصالحهم ومكاسبهم غير المشروعة فحسب، بل يحاولون تشويه أو ضرب العناصر الصالحة والنزيهة التي قد تكشف نشاطاتهم الفاسدة، بحجة أن عليهم تأمين أنفسهم ومستقبلهم، لأنهم إذا لم يقوموا بتلك الأمور فسيصبحون فقراء، ونسوا المقولة الأخرى المشهورة «إن دامت لغيرك ما وصلت إليك» والبقاء والديمومة لله وحدة.

أما التعليق الثاني خاص بالفقر الذي كثر الحديث عنه، فالفقر أنواع وتدخل تحته مسميات وخطوط عدة منها:

- الفقر بوجه عام هو نقص نسبي في المال المطلوب لتغطية نفقات الغذاء والأمور الأساسية لمتطلبات الحياة، كالملبس والمسكن والتعليم والصحة والنقل.

- الحد الأدنى للفقر، ويمثل الحد الأدنى من الإنفاق المطلوب لتأمين الغذاء فقط، ويطلق عليه في بعض الأدبيات «الفقر المدقع» في حين تسميه بعض المنظمات الدولية «خط فقر الغذاء Food Poverty Line».

- الخط الأعلى للفقر

Upper Poverty Line والبعض يسميه «خط الفقر المطلق» ويشمل الإنفاق المطلوب لسد حاجات الأسرة الأساسية من غذاء ولباس ومسكن وتعليم وصحة ونقل، باعتبارها حاجات لا يمكن الاستغناء عنها وغير قابلة للاستبدال أو الاختزال.

وتكمن المشكلة في تحديد الحاجات الأساسية من منطلق إنساني، فعندما نقول نفقات الغذاء هل نكتفي بالروتي أو الخبز مع صانونة الهواء، أو نضيف بعض الخضار والفواكه ولحم الدجاج ولو بالشهر مرة، وفي حالة الملابس أتكفي بذلتان في السنة للفرد مع صندل؟.. وفي السكن هل تعتبر العشة أو العريش المسكن الملائم؟ وأيضاً في حالتي التعليم والصحة ما هو المبلغ كحد أدنى للحصول على هذه الخدمات؟

ففي لبنان مثلا واعتماداً على «سلسلة دراسات لمكافحة الفقر - 9-» الصادر عن الأمم المتحدة عام 1999م حددت السلطة اللبنانية بعد دراسة الحاجات الأساسية لمواطنيها الفقراء أكان للغذاء أو الحاجات الأخرى المشار إليها أعلاه فوضعت لخط فقر الغذاء لوحده مبلغ 300 دولار شهرياً لأسرة في المدينة مكونة من خمسة أفراد، و255 دولارا للأسرة الريفية، بينما القيمة الرقمية لخط الفقر الأعلى الذي يشمل الغذاء والملبس والمسكن والتعليم والصحة والنقل بلغت 600 دولار شهرياً للأسرة في المدينة، و370 دولارا للأسرة في الريف.

أما في اليمن وحسب نتائج مسح ميزانية الأسرة لعام 1998 فقد حددت الحاجات الأساسية في أحسن الأحوال لخط فقر الغذاء (فقط) وصل إلى 2121 ريالا شهرياً بأسعار 1998م. ماذا يغطي هذا المبلغ؟ ومن حدد بنود الغذاء الاساسية حتى ولو كان بقياس السعرات الحرارية التي يحتاجها الإنسان للعيش؟.. إن هذا المبلغ لا يكفي حتى لتغطية غذاء الأسرة اليمنية من الروتي أو الخبز فقط، وبدون صانونة الهواء والذي بلغت قيمته (3 وجبات ×10 أقراص ×30 يوما ×50 ريال) 4500 ريال حسب أسعار أبريل 2005م كما بينته في مقال سابق من على منبر صحيفة «الأيام» الغراء.

أما خط الفقر الأعلى الذي يشمل الغذاء والملابس والأحذية والصحة والتعليم والمواصلات فبلع في اليمن ما قيمته 2873 ريالا حسب مسح ميزانية الأسرة لعام 1998، فهل يعقل أن يغطي هذ المبلع حتى في عام 1998 الاحتياجات المذكورة؟ بالطبع لا وألف لا، ومشكلتنا كما أرى تكمن في تحديد ماهية الاحتياجات الأساسية بمفهومها الإنساني، ولعل القارئ الكريم يتذكر جدول نفقات الأسرة الفقيرة البائسة، الذي نشر في نفس المقال المشار له أعلاه ولم اسمّه الخط الأعلى للفقر، وفي هذا بلغ تقرير الصرفيات الشهرية 23000 ريال لتلك الأسرة االبائسة التي تعيش في الدرك الأسفل للفقر وليس الخط الأعلى للفقر كما فُهِمَت من قبل البعض، وبطبيعة لحال لا تغطي الحاجات الاساسية من منظور إنساني، وإذا ما حددنا تلك الاحتياجات فإنني أعتقد أن الحد الأعلى للفقر لن يقل عن ثلاثين ألف ريال في حال بقاء الأسعار الراهنة دون ارتفاع.

ومن خلال قراءاتي حول موضوع الفقر تبين أن منظمات الأمم المتحدة قد استخدمت نتائج مسح ميزانية الاسرة وقياسات خط الفقر على أساس أنها تعكس الاحتياجات الأساسية للإنسان اليمني، فقد ورد «تبين أن خُمس الأسرة في المدن وأكثر من ثلثي الأسر الريفية لم تكن قادرة على تلبية متطلباتها من الغذاء 8: 1998، cso/ Roy وهذا يتفق إلى حد بعيد مع إدراج اليمن في المرتبة 76 من 85 بلداً نامياً شملها مؤشر الفقر البشري 170: 2000 UNDP».

هذه النتائج في الدراسات الدولية جاءت كنتيجة لبيانات مسح ميزانية الأسرة 1998، ومنها كما قلنا 2121 ريالا يمثل خط فقر الغذاء، أي أن هذا المبلغ يغطي الصرفيات الأساسية للغذاء لأسرة ولمدة شهر، بينما المبلغ 2873 ريالا يمثل الخط الأعلى للفقر بمعنى أنه يغطي كل الاحتياجات الاساسية لأسرة كاملة ويشمل الغذاء والملبس والسكن والصحة والتلعيم والمواصلات ولمدة شهر.. أمر يدعو للدهشة والاستغراب.

فلو وقفنا أمام هذه الأرقام وقفة جادة وأمنية لأحسسنا بهموم الفقراء ومعاناتهم، ولوجدنا هذا المبلغ - ولو كان في عام 1998 - لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يغطي إلا جزءا بسيطاً من احتياجات الأسرة لفترة أسبوع وليس لشهر، ولو قمنا بذلك فسيكون إدراج اليمن في المرتبة الأخيرة رقم 85 وليس المرتبة 76 من 85 بلداً ناميا في تقرير الأمم المتحدة الخاص بمؤشر الفقر البشري.

إن هذه المؤشرات والملاحظات تطلق صرخة ورسالة هامة وواضحة للسلطات المعنية في بلادنا، أكانت تشريعية أو تنفيذية، وهي أن الحد الأدنى للأجور والمرتبات يجب ألاّ يبنى على أساس الحد الأعلى للفقر بالأسلوب أو المحددات التي وردت في مسح ميزانية الأسرة عام 1998، وأن يؤخذ في الاعتبار ارتفاع الأسعار المستمر والواقع المعاش وتغيرات العصر، فما هو كمالي في حقبة زمنية سابقة أصبح ضرورياً في وقتنا الراهن.

وقبل أن أختتم مقالي المتواضع هذا أود أن أشير إلى بعض توصيات ونتائج دراسة صادرة عن الأمم المتحدة عام 2001 (مسح استطلاعي لصياغة سياسات لتخفيف حدة الفقر) وهي:

1- «إن إدامة الفقر في أسرة ما يعمل على انتقال الفقر من جيل إلى جيل، كون الأبناء الذين يبغلون سن الرشد والذين هم خارج مقاعد الدراسة قد يقعون في مصيدة الفقر وتبعاته».

2- «عندما تكون الأجور والمرتبات متدنية ولا تكفي لتغطية الاحتياجات الأساسية، تكون البدائل على حساب رعاية الأطفال والنقل والثياب الملائمة، كما يصبح الاعتماد على المساعدات الاجتماعية خيارا لا مفر منه». ومع ضعف هذ الجانب في بلادنا فاللجوء إلى الشحاته أو الجريمة أمر حتمي.

3- «ضرورة أن تترافق الاستثمارات الخاصة بالتنمية الاقتصادية مع استراتيجيات مناسبة لتنمية الموادر البشرية تدعم قدرة الفقراء على الوصول إلى عمل لائق تراعى فيه الحرية والمساواة والاستقرار والكرامة الانسانية» 3: 1999 ILO.

والخلاصة.. أن الفقر إذا ترك دون دراسة صحيحة ومعالجة ناجحة وجادة فإن تبعاته قادمة، والمتمثلة أساساً في ترك الأطفال للمدارس في المراحل الأولى، وتفشي الجريمة والسلوك الأخلاقي السيء، وتردي الأوضاع الصحية في هذه الشريحة التي تتسع مساحتها يوماً بعد يوم. ومن الحقائق العلمية أن الفقير إذا استمر في فقره، فسيرث أبناؤه الفقر، وأن الخط الأعلى للفقر في اليمن إذا عمل به لن يكون خطاً للفقر، بل خطاً للموت، وخطاً مؤكداً للقبر.

كبير خبراء ورئيس قسم الإحصاءات الاقتصادية بالأسكوا - الأمم المتحدة (سابقاً).

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى