مع الأيــــــام...شارع الذباب

> فريد صحبي :

> «يا شارع الضباب مشيتك أنا.. مرة بالعذاب.. ومرة بالهنا»هكذا غنى العندليب الأسمر.. عبدالحليم .. وهكذا رحت أردد كلمات أغنية (ضي القناديل) هذه الأيام كلما مشيت في شارع من شوارع عدن.. عدن التاريخية .. عدن المركز التجاري العالمي .. كريتر.. الحدقة .. بؤبؤ عين اليمن .. نني العين .. حبة العين .. وضي القناديل والشارع الطويل .. فكرني يا حبيبي بالموعد الجميل.

يا سلام .. بس يا خسارة .. ما ينفعش .. شوارع عدن ليست جميلة كشارع الضباب الذي سار فيه عبدالحليم .. بل هي لم تعد شوارع أصلاً .. أصبحت ممرات ومعابر.. حُفراً ونتوءات .. لم يعد هناك رصيف .. اختفى الاسفلت .. هناك مخلفات بناء .. تراب وكري ونيس وكتل اسمنت .. أكياس بلاستيك معبأة بالقمم .. كداديف .. طفح مجاري .. روائح .. يا لطيف يا لطيف!

من يستطيع أن يسير.. إلا محشوراً بين الجواري والبوابير.. يخاف يدعس قشرة موز أو حوت باغة ممدداً على قارعة الطريق .. معروضاً للبيع وللدعس .. يعني لازم يكون عابر الطريق بهلواناً حاذقاً أو لاعباً في سيرك!

لا يدري أهالي عدن كيف انهال عليهم هذا الجرف الهار من العاطلين من كل مكان.. مدعوماً بطوفان من المشردين والمنبوذين والجياع والمجانين .. ذباب آدمي.. عراة تلتصق بأجسادهم الأوساخ وكل أنواع القاذورات .. يمشون مع الناس مكشوفة عوراتهم .. ويبقى السؤال الحائر.. كيف عرف هؤلاء (وحدهم) الطريق إلى عدن؟!

الشارع صورة الناس الذين يسيرون فيه.. يعبر عن سلوكهم وثقافتهم .. يطبعونه بطبعهم.. المستخدمون الجدد لشوارعنا أحالوها إلى حقل ألغام من القاذورات والنفايات والعوائق .. جعلوا تحت كل جدار مرحاضاً .. بلا باب .. يقضون حاجتهم أينما تيسر لهم .. ولا حرج .. كما أصبح مألوفاً أن يقف وسط الزحام من يغسل فمه (واقفاً) على حافة الرصيف من بقايا طعام أو (تخزينة قات) بماء يريقه على الطريق من علٍ دون مبالاة بما يصيب المارة من حوله من ماء غسيله القذر!

ودعك من ظاهرة البصق على وجه الأرض .. التي هي احتقار للأرض واحتقار للناس أيضاً .. إنها داء معروف في بلاد العرب .. يوم لاحظها مستشرق أوروبي في مطلع القرن العشرين قرر أن العرب لن يبلغوا حضارة العصر الجديد إلاّ إذا أقلعوا عن عادة البصق على الأرض!

هناك أيضاً الضجيج .. داء العصر الحديث .. ضجيج مكبرات الصوت وضجيج نفير السيارات وصخب الباعة المتجولين وصخب الأتربة تثيرها مكانس المنظفين بين أقدام المارين .. وانفلات معايير الذوق والاحترام في المواقف والمعاملات بين الصغير والكبير والمرأة والرجل .. ترافق ذلك مع انفلات النظام وضياع القانون .. فاهتز الشارع وتاهت الناس ولم تعد تعرف الطريق!

الشارع إذن ليس مجرد رصيف وجزر ونهر وبنايات .. الشارع أيضاً سلوك ومعاملات وقيم .. ألم يقل رسول الله محمد [ إن إماطة الأذى عن الطريق صدقة .. ومن بعده بكى الفاروق عمر بن الخطاب ] عندما تذكر لو أن دابة في العراق عثرت قدمها لحاسبه الله لماذا لم يعبّد لها الطريق!

فمال بال المسؤولين في البلدية لا يقدرون المشقة والعناء الذي يتكبده كبار السن والعجزة صعوداً وهبوطاً على درج سوق السيلة الشعبي حيث مربض ومحطة الباصات .. الدرج العتيق الذي أصبح الشحاذون والباعة المتجولون ينافسونهم في استخدام المساند الحديدية على جانبيه.. يا سادة .. إنها معاناة يومية لنسائنا ورجالنا كبار السن .. لا أعتقد أنها أقل من معاناة دابة عمر الخليفة الذي سيحاسبه الله لماذا لم يعبد لها الطريق!

ثم ما بال أصحاب صندوق النظافة لا يلتفتون إلى شوارعنا الداخلية وإلى الحواري والزغاطيط وأطراف المدينة.. ليطلعوا على أكياس البلاستيك المكدسة والممتلئة بالقمم والعفن والنفايات من كل نوع وما يمكن أن يسببه بقاؤها لمدة طويلة من أخطار على صحة أهالي عدن!

وعودة مرة أخرى إلى العندليب كي نستريح .. عودة إلى الشارع الطويل وضي القناديل .. ولكن مع شيء من التغيير وقليل من التعديل.. فـ «يا شارع الذباب.. مشيتك أنا.. مرات بالعذاب.. بس إمتى.. حامشيك مرة بالهنا؟!».

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى