العشق الأزلي بين الإنسان والمكان

> «الأيام» يحيى عبدالرقيب الجبيحي :

> هناك عشق أزلي وعشق هامشي أو عابر .. بين الإنسان ، أي إنسان، والمكان .. أي مكان,فحينما يقوم العشق بينهما على توجهات وأهداف وغايات محدودة وآنية، كأن يعشق إنسان مكاناً لأنه حقق فيه ثروة، فانتقل بسبب ذلك من الفقر إلى الغنى، ومن ضيق الدنيا إلى وسعها، أو حقق في هذا المكان حلماً من أحلامه أكان ذلك زوجة أو مكانةً أو جاهاً .. أو أي شيء من هذا القبيل . هذا العشق وبهذه الصورة وأمثالها بين الإنسان والمكان، هو عشق هامشي وعابر، ينتهي بانتهاء تحقيق الغرض الدافع له.

لكن العشق الأزلي الصادق .. المجرد بين الإنسان والمكان، هو الذي يقوم على الحب الصادق المتبادل بين العاشق الذي هو الإنسان والمعشوق، الذي هو المكان المقصود هنا.

إن هذا النوع من العشق الأزلي الصادق .. ينطبق تماماً بين الحبيب الوالد الفقيد الراحل الشيخ أحمد بن أحمد مهيوب الجبيحي- طيب الله ثراه - وبين مدينته عدن أرضاً وإنساناً.

فلقد قضى - يرحمه الله - في عدن الحبيبة أربعة وأربعين عاماً، وما ذلك إلا لأنه عشقها وأحبها من أول نظرة، ليستمر ذلك حتى وفاته فيها يوم السبت المنصرم، وليظل ذلك الحب والعشق هما المهيمنان على مجمل حياته يرحمه الله.

لقد كانت عدن أرضاً وإنساناً هي الحاضرة أبداً في وجدانه وشعوره، في يقظته ومنامه، في حلّه وترحاله، وحينما كان، يرحمه الله، يغيب عنها لظروف قاهرة وخارجة عن إرادته - وقليلاً ما كان يفعل - سرعان ما يستعجل خطاه للعودة إلى المكان والإنسان الذي أحب، وخاصة في شهر رمضان المبارك .. أو خلال فترة قراءة صحيح الإمام البخاري رضي الله عنه.

لقد ظل- يرحمه الله - يصلي بالمصلين صلاة التراويح بشهر رمضان المبارك أكثر من أربعين سنة في مسجد (نصير) ثم بمسجد الشيخ عبدالله العمودي دون انقطاع، حتى أنه كان يطمع بأداء العمرة في شهر رمضان المبارك، رغم أنه قد حج واعتمر غير مرة، لكنه حرصاً على صلاة التراويح كان يحاصر هذا الطمع.

كما ظل يقرأ كتاب صحيحح الإمام البخاري رضي الله عنه لأكثر من أربعين عاماً، في مسجد (الحراج) ثم في مسجد الشيخ عبدالله العمودي.

تخيلوا هذه العلاقة بين المصلين والحاضرين لسماع أصح كتاب بعد كتاب الله، وبين إمامهم في الصلاة ومفسر صحيح الإمام البخاري والممتدة لأكثر من أربعين عاماً. هل هناك علاقة وعشق تتناسب مع هذه العلاقة، وهذا العشق بين الفقيد- يرحمه الله - وبين أبناء هذه البلدة الكريمة في عرضها وجوهرها؟

لقد أحب الوالد الحبيب الفقيد عدن أرضاً وإنساناً، سهلاً وجبلاً ، براً وبحراً، فلم يفارقها حتى في أحلك الظروف وتقلب الأحداث، ليظل فيها صامداً قبل الاستقلال وبعده، وما صاحب ذلك من تهورات وتصورات وأوضاع دفعت بمعظم أمثاله للخروج منها، في الوقت الذي ظل هو فيها رغم كل تلك المنغصات العديدة، وما ذلك إلا لأنه أحب فيها أبناءها، لعفويتهم وقناعتهم وسكينتهم ووقارهم، وهو ما كان يردده دوماً.

وفي نفس الوقت أحبه - يرحمه الله- أبناء هذه المحافظة المباركة، لأنهم وجدوا فيه المصداقية في كل ما يطرح، وحسن الدعوة إلى الله باللين والدعة وأسلوب الدعوة الذي يفتقر إليه الكثير من الدعاة، ولأنه - يرحمه الله - كان ثابت الإيمان، قوي العقيدة، صادقاً مع الله في السر والعلن، عفوياً في مجمل تصرفاته، فما في قلبه على لسانه، غدت تلك إحدى مميزاته عما عداه، كما كان عفيف اللسان واضحاً في مجمل حياته وضوح الشمس في كبد السماء، ولأنه كان كذلك، فقد كان بمثابة أب وأخ وقدوة لأبناء عدن الحبيبة ولغيرها، فكان بجانب أنه مفتٍ ومأذون شرعي، عنواناً جلياً لإصلاح ذات البين، ولتذليل بعض الصعاب وحلها، التي كانت تحدث في إطار الأسرة الواحدة وبثقة متبادلة ومطلقة. هكذا نشأت العلاقة الروحية المتبادلة بين الراحل الشيخ الجليل أحمد بن أحمد مهيوب الجبيحي، وبين محافظة عدن العزيزة.

فمن السهولة بمكان وجود البديل ممن يصلي بالناس، ويفسر لهم كتابه الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن الصعوبة تكمن في طول العشرة التي وصلت إلى درجة التعود اليومي والموسمي بين المصلين والمستمعين لتفسير كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين إمامهم وشيخهم الجليل- يرحمه الله - وهنا تأتي المفارقة التي يصعب، بل يستحيل تعويضها، فلا حول ولا قوة إلا بالله.

ولم يكتف الوالد الحبيب - يرحمه الله- بحب وعشق عدن أرضاً وإنساناً، بل كان ينشر هذا الحب والعشق بين الآخرين من غير أبناء عدن من كثرة التغني بها وبرجالها، حتى بات لهذه البلدة المباركة ولأهلها الأصليين عشاق ومحبون، وأحسب أن كاتب هذه السطور أحدهم.

وحينما أعيدت وحدة الوطن اليمني الواحد، وعاد تبعاً لذلك بعض كبار الدعاة إلى الله من أبناء عدن الحبيبة، ممن قاموا ببناء الأربطة والمدارس الإسلامية، ونشر العقيدة الوسطية البعيدة، أراد الحبيب الراحل نشر محاسن وفضائل هؤلاء الاخيار بنفس طريقة نشر حبه وعشقه لعدن وأهلها، وإن أنسى فلن أنسى مقولتي له -يرحمه الله - في هذا الجانب، حينما تساءلت معه وهو يكرر حديثه الممتع، وبذلك السرد القصصي الذي انفرد به عن الصالحين من عباد الله. هل الغرض هو غرس محبتهم وعشقهم كما هو حال عدن وأهلها؟ فلم يرد علي إلا بإهدائه لي كتاباً من تأليف فضيلة الشيخ الداعية المعروف أبي بكر العدني المشهور.

وما إن قرأت هذا الكتاب القيم قراءة راغب في الاستفادة، ومحاولة فهم ما بين السطور، حتى اكتشفت سر محبة وتقدير والدي - يرحمه الله - لمثل هؤلاء العلماء الأخيار، فالله أعلم حيث يجعل رسالته.

ولم يقتصر حبه وعشقه لعدن ولأهلها ولعلمائها، وإنما تعدى ذلك إلى بعض أبرز وأشهر صحافييها.

فلقد كان يشيد بما كانت ولا تزال تسطره صحيفة «الأيام» من أخبار وتحقيقات ومقالات رياضية جادة، خاصة حول العديد من علماء ووجهاء وزعماء وأدباء ومفكري اليمن بوجه عام وعدن بوجه خاص.

ولأن «الأيام» منذ تأسيسها قبل أكثر من أربعين عاماً وحتى اليوم، ظلت محافظةً على عراقتها وتفردها في عرضها وجوهرها، لتظل عدن تباعاً لذلك، وفي بعض خصوصيتها ماضياً وحاضراً، هي «الأيام» الصحيفة والعكس صحيح أيضاً، ويكفي أن العدني كان ولا يزال مرتبطاً بها حتى اليوم، فلا يمكنه أن يبدأ نهاره بشرب قهوة الصباح إلاّ بعد وأثناء قراءة «الأيام»، ولذلك حينما نقلت خبر وفاة سيدي الوالد- يرحمه الله - على صدر صفحتها الأولى وبنفس يوم دفنه،فإن الخبر بقدر ما كان أحد أسباب ضخامة تلك الجنازة المهيبة، بقدر ما مثل ذلك وكالعادة المهنية الصحفية الجادة، والتطبيق الفعلي لخدمة القراء ونشر ما يتطلعون إلى معرفته بوجه عام.

كما أنها بهذا الأداء المهني المجرد، تجسد المبادئ الحقة التي يجب أن تطغى على ما عداها، بين القارئ وصحيفته من جهة وتبادل الحب والوفاء بالوفاء من جهة أخرى، فـ «الأيام» الصحيفة ناشراً ومحرراً وكاتباً ومحللاً ومصوراً فقارئا، لهم كل شكر وتقدير وعرفان فإن «من لا يشكر الناس لا يشكر الله».

هكذا هو العشق الأزلي الصادق والمجرد الذي ربط بين الإنسان الحبيب الراحل الشيخ أحمد بن أحمد مهيوب الجبيحي، وبين المكان ممثلاً بعدن الحبيبة أرضاً وإنساناً، ولأنه عشق صادق قام على الحب في الله وبدون أهداف ولا أغراض، فقد بقي وسيظل حتى يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.

وللتأكيد على هذا العشق الأزلي المجرد، فقد سقط الفقيد بين عشاقه ومحبيه وهو يصلي بهم صلاة الظهر في المسجد، ليسعفوه بوجدانهم وشعورهم قبل أجسادهم، وليتحول إلى المستشفى، ثم منزله المتواضع جداً إلى مزار غير معهود ليلاً ونهاراً.

وفي الوقت الذي كنا نستعجل الخطى لغرض سفره إلى خارج الوطن، لتلقي العلاج، فقد كان - يرحمه الله- يخشى أن يأتي أجله بعيداً عن عشاقه وأحبابه كما قال ذلك لغير واحد، رغم أنه كان لعدن ولغير عدن في دعوته.

ولعل الله قد اطلع على صدق نواياه وحبه وعشقه الأزلي لعدن ولأهلها ليختاره إلى جواره قبل سفره المقرر للعلاج بثلاثة أيام.

ولأن هذا الحب والعشق متبادل حقاً، فقد خرجت عدن عن بكرة أبيها تشيع جثمان عاشقها ومحبها إلى مثواه الأخير، حيث مثلت تلك الجموع الغفيرة التي التحم بها الصغير بالكبير والغني بالفقير، التي تجمعها محبة الفقيد الراحل بجانب ما مثلته تلك النظرات المكلومة بين المشيعين وما مثلته من ذرف دموع لا يخجل منها الرجال، قمة العشق الأزلي الصادق والحب والوفاء .

رحم الله الشيخ الجليل أحمد بن أحمد مهيوب الجبيحي رحمة الأبرار وأسكنه فسيح الجنان، وألهم الجميع الصبر والسلوان .. ولله ما أعطى، وله ما أخذ وكل شيء عنده بمقدار، وحسبنا الله ونعم الوكيل .. إنا لله وإنا إليه راجعون.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى