الموت في الصحراء..قصة من السودان

> السودان «الأيام» رويترز :

>
طفل ممددا على الارض ووجهه مغموس في التراب
طفل ممددا على الارض ووجهه مغموس في التراب
كان الطفل ممددا على الارض ووجهه مغموس في التراب وبدا كأنه قد مات بالفعل. فالطفل البالغ من العمر اربع سنوات والذي كان عاريا الا من خلخالين على كاحليه ويغمر جسده التراب الابيض كان قد انهار قبل خطوات من اللحاق بمجموعة من اطفال يتضورون جوعا يستريحون تحت شجرة.

ويبدو كما لو ان احدا قد تخلى عنه.

ومن الشائع لمراسل يعمل في افريقيا ان يري اناسا يموتون. ولكن لان الامر يت علق بطفل في قرية بجنوب السودان خلال فترة جفاف فان حتى الحدث يعد استثنائيا بدرجة اقل.

فالذي جعل حكاية هذا الطفل مختلفة انها جاءت بعد اسابيع قليلة فقط من تعهد المجتمع الدولي بتقديم المساعدة.

لقد سافرت جوا الى منطقة بحر الغزال اواخر مايو ايار مع اثنين من مصوري رويترز في زيارة سريعة نظمتها منظمة اطباء بلا حدود التي ارادت القاء الضوء على تفاقم حالة الجوع بدءا بقرية باليانج.

انها من الاماكن التي لا تعرف انك وجدتها الا عندما يخبرك شخص بذلك. وباستثناء الاكواخ فان ابرز الاشياء التي تستوقف النظر في قرية باليانج هو وجود حفار مقلوب لم يعد يستخدم سوى لتسلق بعض الاطفال الذي يتحلون بالقوة الكافية للعب عليه.

والدراجات التي تم استيرادها من الصين منذ فترة طويلة والتي تتدلى من اذرع قيادتها زهور بلاستيكية وردية اللون باتت تصنف على انها من وسائل التكنولوجيا المتقدمة.

ويمتليء جنوب السودان بالاف من القري من أمثال باليانج .. قرى من الطين والكلاب المفترسة والحياة القصيرة. فالسيارات اختراع حديث خاصة بالنسبة للكلاب المغرمة بالانتحار تحت عجلاتها والكهرباء شيء لم يسمع عنه والطرق تستخدم لمرور الماعز. انها ارض منسية عالميا.

فالحديث عن الجفاف بدأ قبل اسابيع قليلة. ويتحدث عمال الاغاثة عن اسوأ ازمة منذ المجاعة التي حدثت عام 1998 عندما لقي اكثر من 60 الف شخص حتفهم بسبب الجوع في منطقة بحر الغزال. ويخشى عمال الاغاثة من ان يؤدي عدم سقوط الامطار الى تكرار الكارثة.

لم اسمع عن سفر اي مراسلين اخرين الى بحر الغزال مؤخرا فلقد اردنا ان نكون اول من يذهب الى هناك.

تستخدم المؤسسات الخيرية كلمة ميم كنوع من التحذير مع تعريف دقيق لما يمثل

"مجاعة" حقيقية تتعلق بالعدد المتوالي لندرة المحاصيل ولكن الكلمة من حيث المعجم تبدو غير اساسية.

وتجمع عشرات السيدات اللاتي يحملن اطفالا اجسادهم كالعصي عند شجرة حيث وضعت ممرضة كينية تدعى ديسما من منظمة اطباء بلا حدود منضدة لتوزيع اكياس محلول معالجة الجفاف على الرضع الذين يواجهون خطر الموت من الاسهال.

ويبدو ان اسلوبها النشط وابتسامتها المتواصلة قد ساعدت في ازالة الشعور بالاعياء وهى تضع الاطفال الباكين في ارجوحة معلقة تحت الافرع مثل منجنيق عملاق وهى تدون ادلة على سوء التغذية. فالمهم ليس العدد..بل ان الاطفال بدوا كأنهم رجال كبار.

وانتظرت النساء في منطقة ظليلة ورحن يتحدثن بجلد بطولي عن محنتهن بنغمة صوت عادية كالتي يمكن ان استخدمها عندما اصف فيلما عن حرب النجوم.

وقالت احدى السيدات "سرقت قبائل النوير بالطبع ابقارنا." واضافت "ألن تفعلوا نفس الشيء اذا أتى الجفاف على محاصيلكم وترككم دون طعام باستثناء زنبق

الماء الذي اقتلع من المستنقعات." واردفت "مقاتلونا من الدينكا بلغوا من الضعف الحد الذي لا يستطيعون معه القتال. انهم لا يأكلون."

وغالبا ما تتجول النساء وهن عرايا الصدر وسط حرارة جنوب السودان اللافحة حيث يجري الاطفال هنا وهناك وهم لا يرتدون اي شيء سوى أحزمة من الخرز بينما يحمل الرجال الرماح,وليست النساء اللاتي عند الشجرة مختلفات في شيء.

وقالت امرأة "انظر ليس عندي لبن لاطعم به طفلي" وكانت تمسك بثديهاالايمن المجدب وتشير بالحلمة الى وجهي. واردفت "كيف استطيع ان اطعم طفلي."

ان هذه الاحداث تجرى فيما كان يجب ان يكون مكانا للاحتفال.

فلقد وقعت الحكومة الشمالية في الخرطوم ومتمردو الجيش الشعبي لتحرير السودان في الجنوب اتفاق سلام في يناير كانون الثاني وسط ترحيب عالمي. وقد انتهت على الورق اطول حرب اهلية في القارة السمراء.

وعلى عكس القتال الوليد نسبيا في منطقة دارفور بغرب السودان فان القتال في الجنوب استعر لنحو نصف قرن. ولكن البلاد نفضت عن نفسها الان حالة التشاؤم وبدا السلام ممكنا.

وكانت الدول الغنية التي اجتمعت في اوسلو تعهدت بتقديم مساعدات بمليارات الدولارات لاعادة الاعمار وذلك قبل اسابيع من زيارتنا ولكن اين هى النقود؟ فلم تصل اي منها الى باليانج.

فمخازن الطواريء في كينيا المجاورة خاوية والمانحون ليس لديهم الاستعداد لشراء الاغذية الضرورية.

اشارت الينا امرأة ترتدي ثوبا اخضر. فاتجهت انا والمصوران انتوني نجونا وديفيد موانجي حيث شاهدنا الجانب الخلفي من جسدها النحيف بينما كانت تقودنا بجوار كوخها.

وما ان وصلت الى افرع شجرة حتى قامت بالتقاط حفنة من الاوراق وقامت بطحنها في هاون خشبي ووضعت المسحوق في وعاء من الالومنيوم على النار. وقام شاب يدعى كيربنيو حارس احدى دراجات باليانج بالترجمة اثناء غليان الماء.

كانت جبهته تحمل ندبات افقية من طقوس الدينكا وقال "اود لو كان باستطاعتي محوها." واضاف "انها عديمة النفع."

وبعد تصفية العصير الاخضر القاتم تقوم النساء بلف اوراق الشجر على شكل كتل بحجم كرة الجولف ويلقين بها الى افواههن حيث يمضغن ببطء ويرغمن انفسهن على البلع.

اما اطفالهن فقد تجمعوا حول وعاء اخر فلقد اعدت المأدبة سريعا.

وحينما حان وقت الرحيل لم يطلب كيربنيو على عكس الكثير من المناطق في افريقيا ثمنا لمساعدته واشار بدلا من ذلك الى معدته قائلا "انها تؤلمني..هل تستطيعون المساعدة."

ولدى عودتنا الى السيارة التابعة لمنظمة اطباء بلا حدود مررت مرة اخرى بالولد الممدد في التراب,فلقد تحركت عظامه بعد حركة واهنة منه..لقد كان يتنفس. وادركت وقتها انني كنت مخطئا فالولد لم يطرح جانبا فقد كانت هناك امرأة تراقب الوضع من على مسافة امتار قليلة.

فالام والطفل يتضوران جوعا.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى