التنمية البشرية للعمل في الإسلام

> «الأيام» أمذيب صالح احمد:

> (1) العمل مصدر الثروة...تعتمد التنمية البشرية للعمل في الإسلام، التي هي محور التطور الحضاري والتقدم الإنساني في أي مجتمع بشري، على ركيزتين أساسيتين هما العمل والمال. فالعمل هو نشاط إنساني دائم ومتجدد يصنع ويستخرج المال والمواد وكافة صور الحياة المادية والروحية التي تزخر بها الحياة البشرية والموارد الطبيعية. أما المال فهو عبارة عن اكتناز مادي في شكل نقدي او عيني وثابت أو منقول لعمل الانسان فيما مضى من سالف الأزمان، أي انه عمل بشري مختزن في صورة قيم مادية وروحية قابلة للاستثمار المتجدد دائماً والمتغير حسب أحوال الزمان والمكان. فإذا كان العمل والمال صورتين مختلفتين للنشاط الإنساني فإنهما تؤكدان بذلك على ان العمل البشري وحده هو أساس كل إنتاج مادي وروحي وما بينهما. ولذلك حرم الإسلام الفصل بين المال والعمل في الاستثمار السلبي مثل أعمال الربا والمضاربة المالية والقمار التي تكون فيها أرباح بغير عمل منتج، أي ان عنصر العمل الإنساني مفقود فيها.

وانطلاقاً من هذا المبدأ الإسلامي لمفهوم العمل الذي تدور عليه كافة محاور التنمية البشرية والقائل بأن «العمل وحده هو أساس كل تنمية مادية او روحية للإنسان» فإنه يفرض علينا ان نتحرى أولاً كيفية تطبيقه تطبيقاً إنسانياً يليق بكرامة المجتمع الإنساني، فكل إنسان يستطيع ان يعمل وينتج بقدر ما يتيح له مجتمعه من إمكانيات وظروف ايجابية، كما أن كل مجتمع بحاجة الى عمل وجهود كافة أفراده متفجرة بأقصى طاقاتها وإبداعاتها. غير أن جهود كافة أفراد المجتمع وتفجير طاقاتهم وإبداعاتهم تعتمد على حسن إدارة الدولة لهذا المجتمع تخطيطاً وتنظيماً، كما تعتمد على إنسانية رؤيتها لحقوق الإنسان الأساسية في العمل والعلم والحرية والمساواة وضمان الصحة والمعيشة الكريمة وغيرها من الحقوق الأساسية.

(2) الحواكم الشرعية في خلق العمل وقتل البطالة
وبما أن الطليعة الإنسانية بقيادة أنبيائها ورسلها ومصلحيها و مفكريها كانت تثور دائماً على المظالم الاجتماعية الناشئة عن استغلال القوى الاستكبارية للقوى الإنسانية العاملة المستضعفة، فإنها لم تفلح في تحقيق غايتها الأساسية إلا حينما جاء الإسلام بتعاليمه الكبرى في الحرية والمساواة والعدل والشورى ومقاومة الظلم الاجتماعي ومحاربة الاستغلال رافعاً حقوق الانسان للمستضعفين في الأرض، فأثرت هذه التعاليم الإسلامية الكبرى تأثيراً كبيراً في الفكر الإنساني وخاصة الأوروبي منه الذي كان رازحاً تحت مفاهيم الظلم والاستغلال والطبقية، فانفجرت فيه الأفكار الثورية من تنويرية وعلمانية وحقوقية واشتراكية وماركسية بعد قرون من سطوع نور الإسلام على اوروبا المظلمة بالمظالم. لقد قدرت الشريعة الإسلامية عظمة العمل الذي هو مصدر كل شيء إنساني في الحياة بتحقيقه وتجسيده عقائدياً في القضايا الرئيسية التالية: (أ) حتمية العمل ووجوبه على الجميع، (ب) تحريم الاستغلال وحبس المال، (ج) تحريم حبس المال بالبخل والشح والتقتير، (د)تحريم إطلاق المال بالتبذير والإسراف والسفه والترف، (هـ)وجوب الاستثمار والإنفاق،(و)الإنفاق في بناء المجتمع الإسلامي الحضاري القوي، (ز)جعل العلم والصحة فريضتين على الفرد والدولة وذلك على النحو التالي:

(أ) حتمية العمل ووجوبه على الجميع
إن الإنسان بتكوينه وطبيعته لا يستطيع ان يكون بلا عمل او يتوقف عنه، فهو ليس مخيراً في ذلك ولكنه مجبور ومفطور عليه بأسباب وحواتم إلهية في تكوينه ودوافع غريزية في جسمه ولوازم شرعية في مجتمعه تفرض عليه الحركة وتوجب عليه الفعل كما أوضحنا في مقال سابق عن حتمية العمل في الإسلام. إن حتمية العمل في الإسلام تجعله حقاً وواجباً على كل انسان في المجتمع، حتى يشارك كل فرد في العطاء والبذل بما يقدر عليه من طاقته، وهو ما يعني ان حجم العمل سيكون كبيراً ما دامت روافده كثيرة وصادرة من كل انسان في المجتمع. فزيادة حجم العمل ستؤدي حتماً الى زيادة في المال الذي يتحول بإنفاقه الاستثماري الى قوة تطويرية في المجتمع والدولة. وعليه فإن توفير العمل لجميع أفراد المجتمع حتى يصبح المجتمع كله قوة عاملة أمر حيوي للمجتمع الإنساني. يقول الرسول الكريم [: «إن الله يحب المؤمن المحترف» ويقول «من أمسى كالاً من عمل يده أمسى مغفوراً له يوم القيامة». (الكهف/110)، {جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ} (الملك/15). {لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} (يس/35)، {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (الزخرف/32)، {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ} (سبأ/39).

(ب) تحريم الاستغلال وحبس المال
تقوم التنمية البشرية للعمل في الإسلام على قاعدة تحريم الاستغلال وتحريم حبس المال بالاكتناز وذلك من خلال تحريم «الربا» (أولاً) الذي يعتمد في الحصول على أرباح وهمية ليست من عمل مثمر على أرض الواقع أو كانت من أعمال محرمة لما فيها من استغلال أو إفقار أو امتهان لكرامة الانسان، كما تقوم (ثانياً) على تحريم أكل أموال الناس بالباطل سواء أكانت عامة او خاصة، وتقوم (ثالثاً) على تحريم كنز الأموال والثروات وتجميدها بغير استثمار فيما لا ينفع الناس، كما تقوم (رابعاً) على تحريم ممارسة الاحتكار في الأعمال والأموال والثروات حتى لا يكون المال متداولاً بين الأغنياء فقط وحتى تدور الأرزاق بين الناس ويسخر بعضهم لبعض في الاعمال بحيث يكونون درجات فوق بعض حسب تفاوتهم في إمكانيات الكسب والرزق وفق شروط وظروف من العلاقات الإنسانية في التعاون والتناصح و التراحم والتكافل والتضامن الاجتماعي. وقد حرم الله الربا وأكل الأموال بالباطل كما حرم كنز الأموال وجَمعِها في العديد من الأحكام القرآنية تُظْلَمُونَ} (البقرة/279). {وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُ النَّاسِ بِالإِثْمِ} (البقرة/188)، {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَم بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَا وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ }(الحشر/7)، {وَجَمَعَ فَأَوْعَى} (المعارج/18)، {الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ} (الهُمزة/2).

(ج) تحريم حبس المال بالبخل والشح والتقتير
إذا كانت القاعدة الأولى لاقتصاد العمل في الإسلام هي وجوب العمل الإنساني وحتميته والقاعدة الثانية هي تحريم الاستغلال والاكتناز، فإن القاعدة الثالثة لاقتصاد العمل في الإسلام هي تحريم حبس المال بالبخل والشح والتقتير، فالبخل كما يقول الإمام علي ] هو «آفة الاقتصاد وينتج البغضاء ولا ينبغي ان يتولى إمامة المسلمين البخيل فتكون في أموالهم نهمته» كما يعتبر أيضاً ان الشح جلباب المسكنة وزمام يقاد به إلى كل دناءة. إن الإمام علي ] يقرر ان صفة البخل في الإنسان تمنعه من تولي المسئولية والقيادة في الدولة والمجتمع، لأن البخيل يعطل بعض المقاصد الشرعية للناس فالبخل يؤدي الى حرمان المجتمع من دوران المال فيه بالإنفاق والاستثمار الذي يزيد في تشغيل الناس وتطوير الحياة، فحركة المال الخيرة فيها بركة للجميع وكل بخل هو تجميد للنشاط الاقتصادي والاجتماعي، وكل تجميد للنشاط الاقتصادي والاجتماعي هو تعويق وتأخير لتطور الانسان والمجتمع والدولة وهو عامل من عوامل التخلف والفقر، لأن ما يمكن إنجازه اليوم يجمده البخل الى أجل غير مسمى، وهو الأمر الذي أدرك الإسلام نتائجه في التخلف والفقر وخطورته على التقدم والحضارة. ولذلك نزلت أحكام قرآنية تنهى عن البخل نورد بعضاً منها (الإسراء/100)، {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُ يَبْخَلُ عَن مَنُوعًا}(المعارج/21)، {وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} (الفجر/18) {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} (الفجر/20).

(د) تحريم إطلاق المال بالتبذير والإسراف والسفه والترف
والقاعدة الرابعة لاقتصاد العمل في الإسلام هي تحريم إطلاق المال بالتبذير والإسراف والسفه والترف والبذخ، وهذه القاعدة هي على طرفٍ نقيضٍ مع حبس المال بالبخل. فإذا كان البخل يؤدي الى حرمان المجتمع من الإنفاق والاستثمار بالمنع والحجر، فإن التبذير والإسراف والسفه والترف يؤدي إلى حرمان المجتمع أيضاً من الإنفاق النافع والاستثمار التطويري، لأن التبذير هو إنفاق كبير على شيء محدود أو في مجال ضيق لا يستفيد منه إلا القليل ولا يعود بالخير العام على المجتمع، وكان يمكن ان يستثمر وينفق على دائرة أوسع كماً وأهم نوعاً. إن التبذير هو تبديد للجهود وللأشياء وللمواد وللموارد المالية والطبيعية في المكان والزمان. إنه بعبارة أخرى إنفاق واستهلاك زائد عن الحاجات والضروريات لا يستفيد منه أحد ويتجاوز منفعته الحدية بالتبديد والضياع، ولذلك يحرم منه المجتمع، وهو في هذا يستوي مع البخل في كنهه ومفهومه بتعطيل وتعويق الاستثمار وهو ما ينتج عنه تأخير في التنمية البشرية وتأخر في التطور الاجتماعي وتخلف حضاري، ولذلك نزلت أحكام قرآنية بالنهي عنه وتحريمه نورد بعضها كما يلي: {وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا }(الإسراء/26)، {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} (الإسراء/27)، {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِك وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (الأنبياء/13)، {قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ} (سبأ/34) {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا} (سبأ/35).

(هـ) وجوب الاستثمار والإنفاق
والقاعدة الخامسة للعمل في الإسلام هي الحث على وجوب الاستثمار الاقتصادي والإنفاق الاجتماعي العام والخاص بما يعود على المجتمع بالخير العام وتحرير الانسان من عبودية الاستغلال وإذلال الفقر والجهاد لبناء المجتمع الإسلامي القوي وحمايته. مع استخدام أدوات الزكاة والصدقات وأعمال البر المختلفة بالتعاون والتضامن الاجتماعي للتراحم بين الناس، لأن أساس التنمية البشرية في المجتمع الإسلامي يهدف الى محاربة الفقر والقضاء عليه لأن الفقر هو بمثابة (الكفر)، وإذا كانت محاربته في بداية الأمر تقتضي اجتماعياً الاستعانة بوسائل الزكاة والصدقة وأمثالهما من أدوات التكافل الاجتماعي، فإن توفير فرص العمل هو حق أساسي من حقوق الانسان الواجب ضمانته من الدولة بواسطة تنظيم وتشجيع أعمال الاستثمار العام والخاص في المجتمع وحمايته من كل تعطيل أو إفساد. والإسلام حينما يأمر بالإنفاق ويحث عليه فإنما يهدف الى تحقيق المقاصد الكبرى للشريعة في المجالين الاقتصادي والاجتماعي يمكن إيجازها من أدبيات الاقتصاد الإسلامي على النحو التالي وهي: (1) إن المال سواء كان عاماً او خاصاً هو مال الله وكل أفراد المجتمع لهم حقٌ فيه حسبما تنظم إنفاقه الدولة وفقاً لقواعد الشريعة. (2) تحقيق التضامن والتكافل الاجتماعي بين الناس بالإنفاق حينما يكون إلزامياً في أحوال معينة مثل الزكاة وحينما يكون اختيارياً في أحوال أخرى كالصدقة. (3) محاربة احتكار الثروة والمال وجعل المال متداولاً بالإنفاق بين الناس حتى لا يكون هناك تمييز طبقي بالمال، فالتمييز في الإسلام يكون بالتقوى والعمل الصالح او النافع. (4) ترشيد الاستهلاك والتوزيع بالإنفاق في تنمية المجتمع والأفراد ومحاربة الفقر الناشئ عن البخل او الإسراف لحفظ التوازن وضبط التفاوت المخل بالمجتمع. (5) إيجاد التوازن بين الحرية الاقتصادية لذوي الأموال في إنفاقها واستثمارها اقتصادياً وبين تدخل الدولة وتوجيه التنمية الاقتصادية في سبيل المصلحة العامة للشعب. (6)«لا يسمح الإسلام بالثروة والغنى في وجود الفقر والحرمان وإنما يبدأ الغنى والتفاوت فيه بعد كفالة حد الكفاية أي المستوى اللائق للمعيشة لا مجرد حد الكفاف أي المستوى الأدنى للمعيشة وذلك لكل فرد يعيش في مجتمع إسلامي أي كانت جنسيته او ديانته، أي بوصفه انسان وباعتبار ذلك حق الله الذي يعلو فوق كل الحقوق» على حد قول الدكتور محمد شوقي الفنجري.

وقد كان الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم يضربون المثل الأعلى للآخرين في إنفاق اموالهم على المجتمع والدولة قدر مستطاعهم سواء أكانوا في السلطة او خارجها، بل ان الخلفاء الراشدين كانوا يتسابقون في إنفاق أموالهم. أما حينما فارق رسول الله صلى الله عليه وسلم الدنيا فإن الدكتور علي محمد الصلابي يقول في كتابه (السيرة النبوية) الصادر عن دار التوزيع والنشر الإسلامية في القاهره ما يلي: «فارق رسول الله [ الدنيا وهو يحكم جزيرة العرب ويرهبه ملوك الدنيا، ويفديه اصحابه بنفوسهم وأولادهم وأموالهم، وما ترك عند موته ديناراً ولا درهما ولا عبداًً ولا أمةً ولا شيئاً إلا بغلته البيضاء وسلاحه وأرضاً جعلها صدقة، وتوفى صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهون عند يهودي بثلاثين صاعاً من الشعير». إن أحسن أموال خير الأنبياء قد جعلها صدقة للشعب، أما وسيلة المواصلات وهي (البغلة) التي تعتبر من الدرجة الرابعة في ذلك الوقت لرئيس دولة فقد تركها لأهله بينما نرى اليوم أن جزءاً كبيراً من اموال العرب والمسلمين مكنوز لدى أعدائهم في الخارج يستثمرون إنفاقها كيفما شاؤوا لمصالحهم. يقول تعالى فيما يتعلق بإنفاق الأموال: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} (البقرة/3)، {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} (البقرة/245)، {م أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا م تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُ الرَّازِقِينَ} (سبأ/39).

(و) الإنفاق في بناء المجتمع الإسلامي الحضاري القوي:1) الإنفاق للجهاد ضد الفقر

إن الفكر الرأسمالي المادي يعطي حرية كاملة للفرد بالتصرف في أمواله اجتماعياً وفق قوانين الدولة التي تلزمه بحقوق الدولة عليه فقط، ولكنها لا تلزمه بأية مسؤولية مباشرة نحو الفقراء والمعدمين أو نحو أي قطاع في المجتمع. أما في المجتمع الإسلامي فإن الفرد والدولة في المجتمع ملزمان بأحكام إلهية بمعالجة الفقر ومكافحته والقضاء عليه، وله الأولوية في السياسات الشرعية للدولة والمجتمع وليس ضرباً من الاختيارات الأنانية كما يصورها الفكر الرأسمالي الليبرالي وأدواته الدولية من البنوك أو الصناديق. إن الفقر يجرد الإنسان من الحقوق الأساسية للحياة ولا يمكن أن تقوم مساواة أو حرية أو عدالة مع وجود الفقر، لأن الفقير يظل غير قادر على تحصيل حقوقه الأخرى في المجتمع بسبب ضعفه وانشغاله للبحث عن قوته اليومي. وإذا كان الترف هو إسراف في البطر والسفه، فإن الفقر هو إسراف في المذلة والهوان، فكيف تستقيم المواطنة العادلة بين أفراد المجتمع المسلم. ولذلك شدد الإسلام على جعل مكافحة الفقر هدفاً أساسياً في التنمية البشرية. فكل انتشار للفقر تتحمله إدارة الدولة التي تتقبل مفاهيم رعاية الفقر واستدامته ضمن سياسات تمليها ضغوط وإغراءات خارجية تحت عناوين مختلفة مثل برامج «برامج تخفيف الفقر» والقبول «بخط الفقر» و«البطالة» و«فائض العمالة» و«الخصخصة» وهي سياسات تعمق و تؤصل عقائديا لقبول الفقر كسياسة بنيوية وعضوية وكأنها لا تتعارض مع رفض الإسلام للفقر عقائدياً ومعاداته واعتباره في مستوى الكفر تجب محاربته بشدة ومقاومته بكل الوسائل. فالرسول [ يقول: «كاد الفقر أن يكون كفراً» ويقول «اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر»، فقال رجل: «أيعدلان؟» قال «نعم». ويقول الإمام علي بن أبي طالب ] عن الفقر «لو كان الفقر رجلاً لقتلته» ويصفه بأنه «الموت الأكبر». وعليه فإن معدلات التنمية الاقتصادية في الفكر الإسلامي تقاس بمستوى القضاء على الفقر والبطالة وليس بمستوى متوسط دخل الفرد في الدخل القومي. ومصطلح الفقر في الفكر الاقتصادي الإسلامي يوضحه الدكتور محمد شوقي الفنجري في كتابه (الإسلام والمشكلة الاقتصادية) كالتالي: «لا تتمثل مشكلة الفقر كما تصور البعض في ظاهرة الجوع والحرمان أو العجز عن إشباع الحاجات الأساسية للمعيشة، مما يعبر الفكر الاقتصادي التقليدي اصطلاح حد الكفاف. وإنما تتمثل في عدم بلوغ المستوى اللائق للمعيشة بحسب ما هو سائد في المجتمع مما يختلف باختلاف الزمان والمكان وهو ما أدركه الفكر الاقتصادي الإسلامي بظهور الإسلام منذ أربعة عشر قرناً وعبر عنه باصطلاح حد الكفاية» ويضيف: «ومن ثم كان الحل الإسلامي لمشكلة الفقر هو ضمان حد الكفاية لكل فرد، يوفر لنفسه بعمله وجهده، فإن لم يستطع ذلك لسبب خارج عن إرادته كمرض او عجز او بطالة..إلخ، تكفلت له بذلك الدولة من مال الزكاة» ،ويروي في كتابه روايتين تؤكدان مبدأ حد الكفاية عن الخليفة العظيم عمر بن الخطاب ] مفادها في الأولى أنه حينما ودع أحد نوابه ببعض الأقاليم فسأله: «ماذا تفعل إذا جاءك سارق»، قال: أقطع يده، فقال عمر: «وإذن فإن جاءني منهم جائع أو عاطل فسوف يقطع عمر يدك»، وأضاف عمر قوله: «إن الله قد استخلفنا على عباده لنسد جوعتهم ونستر عورتهم ونوفر لهم حرفتهم، فإذا أعطيناهم هذه النعم تقاضيناهم شكرها. يا هذا.. إن الله قد خلق الأيدي لتعمل فإذا لم تجد في الطاعة عملاً التمست في المعصية أعمالاً، فاشغلها بالطاعة قبل أن تشغلك بالمعصية». كما يروي عنه أيضاً إنه جاءه رجل يشكو سرقة خدمه، فأمر عمر بإحضارهم وأقروا ما نسب إليهم ذاكرين أن سبب ذلك أنه لا يقوم بكفايتهم من طعام وملبس، فلما تحقق عمر من ذلك تركهم واستدعى الرجل وتوعده قائلاً «إذا سرق خدمك مرة ثانية قطعنا يدك أنت».

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى