أربعاء صنعاء الدامي في عيون الطفل وأنشودة المطر

> د. هشام محسن السقاف:

>
د. هشام محسن السقاف
د. هشام محسن السقاف
في فسحة الوقت المقلق والمتدثّر برداء الفوضى والدخان المتصاعد وزخات الرصاص والأصوات المجنونة، يبقى البقاء في دواخلك محاصراً، وخلف أسدال الرؤية الرمادية يبقى ذلك مقلقاً، إلى حدود تثير فضول المخاطرة، للخروج وقوفاً على المجهول في صباح صنعاء، ولتبقى بعد ذلك مشدوهاً بمنظر زائغٍ ورؤيا مبعثرة.

في صباح صنعاء: غاباتٌٌ من الحزن أقرؤها في عيني طفل غرق في هموم أكبر منه، وأكبر مني أيضاً وزملائي من الأدباء الذين حوصروا لهنيهة فالتة من عقالها في مبنى اتحادهم. لا شيء أحزن منه وهو يذرع فضاء الشارع الضيق كـ «بنطلون الجينز» بين بابين متقابلين .. باب بيته وباب مبنى اتحادنا العتيد، أما أنا فلا همّ لي سوى انفراج السديم في وقت ضاع هدراً في (زمكنة) غريبة، ماذا يجري؟ من يسدل أسدال العتمة على ضحوات النهار؟ أسأل الطفل المهموم بما هو أكبر منه: ما الصيحات المدوية والأزيز المزعج؟ .. هل تعرف؟ كان التوغل في عينيه منحة ربانية أنستني مذاق الرصاص وهو يئز في سماء غائمة، ثم ألهمني صدق كلامه المتهدج تباشير الخروج من غلالة سوداء في يوم أسود، وانهمرت بيننا دموع السماء فجأة، لتحول ما بين كلامه وبيني، ويمضي هو كعصفور بلّله القطر إلى عشه الصغير، وأمضي أنا في انبهار مواجعي ولغط الطريق إلى غرفة في فندق لا تتسع لأسئلتي، تنام هي فيما تبقى من يقظتي على هدير القلق.

صنعاء الغد: تيقظ في النفس ومزار آخر يتهدج في ملامح الضوضاء الغائمة، تحملني قدماي قدماً إلى هداية مرجوة ونفس تتمزق .. والناس .. الناس يمضون في مسرح لم يسدل ستارته على المشهد الأخير، لا الغيم يأتي باكراً والخوف مزروع من صبحهم الأول .. الأول. مشاهد الطرق المغلقة تفتح رحابتها للمارين، والحذر الآسن يطوف بالأرجاء، أما الحطام المرمي على كل قارعة فيندب حظه وحظّ اجتماع الفوضى المقلقة والإدارة الفاسدة، وبينهما يشدُّ أناسٌ كثيرون أحزمة التقشف على بطونهم، ويهرولون في مسرح الحياة كأن لم تكن الواقعة، كلامهم الصمت وصمتهم كلام يبين للملأ هول الكارثة!

الآن الظهر: كنت أردد بين القطرات الندية التي تطهّر قلب المدينة بعد يوم صارخ: مطر .. مطر .. ثم أمضي هائماً بين الدمار وبيني، أبحث عن جريدة لا تصادر عقلي وبقية النزق الذي يخرجني مني بحثاً عنها بين الماء والنار.. أبحث عن كلمة فيها تكون البدء، وتضمد ما بيني وبيني من جراح، ثم تكون البدء ثانية في زحام المدينة، حيث لا زحام فيها الآن سوايَّ والأطقم المنتشرة بسخاء. أجد الجريدة ولا أجدني، أجدني ولا أجد الكلمات. زخات الطر تغمرني، تنثّ فيّ ما فيها من أسرار السماء، وفي الشوارع المطاطئة وبقايا الزجاج المتناثر والجند المنتشرين في أنفسهم وفي اللحظات القلقة.

أمضي وحدي حزيناً كما أكون .. دائماً، والجريدة قد ساح ما فيها من مداد على الأرض، ساح مثلي حزيناً على الخراب والجوع، أما السماء فلا زالت تغني على الأرض أنشودتها المنتقاة بالمطر:

أتعلمين أيّ حزن يبعث المطر

وكيف تنشج المزاريب إذا انهمر

وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياع

بلا انتهاء كالدم المراق كالجياع

كالحب كالأطفال كالموتى

هو المطر ..

مطر..

مطر ..

مطر ..

صنعاء - 22 يوليو 2005م

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى