قصة قصيرة بعنوان (يوم في المدينة)

> «الأيام» منى عوض باشراحيل:

> يدها متدلية تذرع بأصابعها أرضية المشمع، تنام على بطنها. يدها الأخرى مستقرة لا تذرع شيئاً. خصلاتها المتعرجة الجميلة تملأ وجهها، يبدو أن هذا المكيف يريد تطبيق الجنون عليها. ألم في منتصف جسدها، تشعر بالكسل والثقل، تغمض جسدها. هذا كل ما تفعل.

غداً قد تبدأ بعمل شيء، ربما النهوض من السرير وعمل القهوة، أو قد تقوم بعمل مهم نوعاً ما، كأن تتفقد رعيتها التي لم تنصب عليهم راعياً. أظن أن الأول سيكلفها الكثير، بينما الثاني لن يكفلها إلاّ المشاهدة والتعليق الحاف.

برنامج اليوم أن تتجول مع نسمات دخول الشتاء في شوارع المدينة في الصباح الباكر، أو حتى قبل الشروق بقليل، المدينة نصف نائمة، الكرتون يملأ زاوية معينة ويملأه بشر وأحياناً صغار.

كلب هنا، كلب هناك لا مشكلة .. جواري تحمل أشياء مخبأة وتحتها بشر. مجارٍ على بعد قريب تستقر، وقليل منها...!

بدأ الصباح عند موقف السيارات. بشر صغار يحملون (بوالد) الماء وخرقاً تبدو من المنفى. صفعتها الرؤية عندما تقدم صغير منهم يقول:

- هل أمسح لكم السيارة؟

نهره السائق، تراجع بخيبة أمل.

الناس مع الناس يولدون. إلى العمل، إلى السوق، إلى المدرسة، إلى الجامعة، إلى السرقة، إلى الغضنفرا، وإلى ما لا تعرف.

حُفر تقفز معها السيارة بين حين وآخر.. بحر.. تبحث عن رؤيته فلا يجيب .. ركود هنا. ركود هناك.. روتين هنا، روتــين هــناك.

موقف آخر للسيارات.. هذه المرة الازدحام يصيبها بالضوضاء، فجأة من الجهة اليسرى، طفل يقود رجلاً أعمى، يرتلان: «للأعمى يا كريم»، طرق على الزجاج من جهة اليسار، شخص بترت يده لا تدري كيف يمدها للرحمة، ونخبة أخرى من الأطفال عالقون على الزجاجات الأخرى للسيارات يبيعون الفل، وآخرون يبيعون الأمشاط والسكاكين...إلخ، (وكله بعشرة ريال فقط) وأطفال يشحذون باسم العائلة. طفل به انتفاخ صباحي في خده الأيسر.. إنه القات .. ولديه الكثير بالكيس لا تعرف لمن يحمله. كان النهار قد انتصف.

أمرت السائق بأن يتوقف، شرع لذلك لكنه توقف عن أمرها بعد أن سمع أبواق سيارة الجيش، ترك الشارع الرئيس إلى شارع فرعي، سألته:

- ماذا حدث؟

- لا شيء، فقط أرادوا أن أخلي الطريق لهم لكي يمروا بسرعة. لم تعلق. (أكلت السندويتش وعادت لتفقد أحاول رعيتها المزعومة).

وقبل أن تعود الشمس لحجرتها المفتوحة دائماً، باتجاهات مختلفة، أمرت السائق أن يمر على حي من أحياء المنصورة، لعلها تجد غايتها من كل ذلك.

التفتت يميناً، يا إلهي أطفال يرمون حجارة في البالوعات حتى تلتصق بملابسهم، وآخرون يعبثون مع كلاب قذرة بدت لها مليئة بالقراد، وأطفال قليلاً قد كبروا يجلسون قرب كشك صغير به صور لفنانين وفنانات شباب، وصوت الأغاني عال، وهم يلعبون (البطة)، تصل إلى أذنيها ألفاظ غير مستحبة، وبعد أحاديث قليلة يبصقون التمبل على التراب، حتى خيل إليها بأن هناك من ذبح، شعرت بالغثيان، أفلتت نظرها إلى اليسار ملتفتة، يبدو أنها قد سئمت الالتفات يميناً.

ودعتها الشمس فجأة، طلبت من السائق التوقف. ترجلت بعد تأمل قصير.

إنه في العاشرة من العمر، لكن عم يبحث هنا - إنها قمامة عمرها أيام - وضعت يدها على أنفها بمنديل معطر، اقتربت لكنها لم تستطع، نادت على عشر سنوات كبيرة، جاءها الطفل قائلاً:

- أي خدمة؟

لا تعرف كيف تحركت مشاعرها نحوه، رفعت يدها إلى شعره وقالت:

- ما الذي تفعله هنا؟

- أجمع قطع المعدن وكل ما يمكنني بيعه؟

- هنا؟!

- أجل، ماذا في ذلك؟

- قد تمرض.

- لا تخافي أنا (جرنتي).

- لكن كيف تبيع ولمَ؟

- لدي أم وسبعة إخوان (طأطأ رأسه.. ازدحمت كلماته حزنا) وأب.

- هل أنتم فقراء أو معدمون إلى حد أنك تبحث عما تبيع حتى تأكلوا.

- هذا يكفي، ما يهمك أنت؟

- أعذرني، لكن هناك ما يشدني. لا أعرف.

- الفضول؟

- قد يكون.

- لا وقت معي اعذريني.

- حسناً سأشتري منك ما جمعت بشرط أن تحكي لي.

- أهذا صحيح؟ لكن عديني ألا تخبري أحداً بما سأقول.

- أعدك.

افترش الأرض بقرب السيارة بعد أن تحركت بهما إلى مكان يبعد عن القمامة، ترجلت وافترشت قربه الأرض.

- ماذا يا صديقي.. حدثني

- هل أنت غنية، هل هذه السيارة لك؟

- لا، إنها لسيدي صاحب العمل.

- إذن، كيف ستدفعين لي؟

- لا بأس .. يوجد لدي القليل من المال.

- كم؟ قد لا يكفي لشراء ما سأبيعك إياه.

- لا تهتم، لدي (2000 ريال) هل هذا يكفي؟

- يا إلهي.. هل تملكين كل هذا؟ أنا أبيع المعدن (بمئة ريال أو حتى عشرة ريالات).

- يا الله. بعد كل هذا العناء؟

- اسمعي. أمي طيبة ضعيفة، إخوتي ذكران، وأربع أناث، أنا أكبر أخوتي، ولأني كذلك لا بد أن أعمل مع والدتي الخياطة لـسد مصروف البيت اليومــي، وجــبتان تـكفيان.

- وماذا عن أبيك؟

- لا شيء (حول نظره عنها وكأنه لا يريد التحدث عنه، تأمل البيوت المرتبة عشوائياً، ثم واصل) أبي في البيت لا يعمل، يستلم الراتب بعد ستة أشهر أو ثلاثة أشهر يشتري القليل من (الراشن) ويقول سبروا حالكم.

- وبقية الراتب؟

- كل يوم (قات مطول) لمدة .. ثم قات (أبو دريب) إلى أن ينفد المبلغ، ويعود إلى أمي لإعطائه (خمسين ريالاً) لكي يشتري القات وعشرين (التمبل- والشاهي الملبن).. هذا (كيف) أبي الذي لا ينقطع.

- وماذا يأكل عندما (يخزن)؟

- (روتي وشاهي) الصباح والغداء رز و(صانونة) أو حتى وجبة واحدة المهم الكيف الثلاثي لا ينقطع.

- وماذا عن إخوتك؟

- البنات في البيت، والأولاد يدرسون بالمدارس الحكومية، تصوري أنا أعرف معلومات في أشياء كثيرة أحسن منهم.

- هذه حال المدارس الآن.

كأنها تواسيه، لكن لحظتها لم تكن تعلم هل تواسيه على وضع الدراسة أم على أسرته وأبيه اللا مبالي، أم على حال أطفال المدينة.

- حسناً، ولم لم تذهب أنت إلى المدرسة؟

- (ما لك مش قلت لك أنا الكبير).

- وماذا في ذلك؟

- أبي يقول يجب أن أحضر المال، أو (أشوف لنفسي مكان آخر).

- يا إلهي!

شردت طويلاً، إلى أن نبهها السائق والطفل للوقت.

دفعت له كل ما قالت في البداية أنها تملكه رغم أنها أرادت إعطاءه المزيد، لكنه رفض المبلغ كاملاً واكتفى (بخمسمئة ريال). أعادت له المعدن وقالت:

- سامحني.. غداً بعه واستفد من ثمنه.

- حقاً، شكراً لك.

عادت إلى السيارة المكيفة وفي ذهنها كل الأطفال الذين رأتهم اليوم، تساءلت: هل حال كل أولئك الأطفال كحال هذا الطفل؟

همست:(ما أسهل أن تكون قوياً)

عبارة اختتم بها تشيخوف قصته (المغفلة).

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى