رجال في ذاكرة التاريخ

> «الأيام» نجيب محمد يابلي:

> 1- صلاح ناصر كرد: صانع لحن «أسألك بالحب يا فاتن جميل»...الميلاد والنشأة..من مواليد الحوطة، حاضرة السلطنة اللحجية، في مطلع الثلاثينات من القرن الماضي، وكان ترتيبه الثالث بين إخوته التسعة والثاني من الذكور. تلقى تحصيله الأولي في كتاتيب الحوطة والتحق بعد ذلك بالمدرسة المحسنية العريقة في الحوطة.

بدأ صلاح ناصر كرد مشواره مع الوظيفة في إدارة المالية بأبين، التي كانت معروفة بالسلطنة الفضلية، وكان من المنتسبين معه في الجهاز الإداري للسلطنة سالم ربيع علي ومحمد مرشد ناجي، وانتقل صلاح بعد ذلك إلى السلك الكتابي في محكمة لحج، وكان عبدالخالق مفتاح، الشاعر المعروف من زملائه في العمل.

أرض وادي تبن وعراقة الفن
تنشأ المجتمعات الحضرية في السهول وعلى ضفاف الأنهار والوديان حيث الخضرة والماء، وتنبجس عيون الفن حال رؤية الوجه الحسن، وكان الأمير أحمد فضل القمندان من أبرز عيون الفن الذي كون أول فرقة موسيقية، وهي المدرسة التي تخرج فيها قمم إبداعية بحجم فضل محمد اللحجي ومحمد سعد الصنعاني، وبعد وفاة القمندان عام 1943م حمل الراية بعده مبدعون كبار.

شهدت دوحة الفن في أرض تبن ظهور فرق موسيقية، حيث ظهرت في خمسينات القرن الماضي «ندوة الجنوب الموسيقية» بقيادة الفنان الجهبذ فضل محمد اللحجي، و «الندوة الموسيقية اللحجية» بقيادة الفنان الكبير صلاح ناصر كرد، الذي تتلمذ على يد الفنان محمد سعد الصنعاني.

كرد وندوته في ذاكرة الأستاذ محمد أحمد كرد
أعد الأستاذ محمد أحمد كرد دراسة في (10) صفحات وتفضل بإهدائي نسخة منها عبر الأستاذ علي حسن قاضي، رئيس فرع اتحاد الأدباء والكتاب بمحافظة لحج، ووصلتني بالفاكس، وجاء فيها أن صلاح كرد كان ربع القامة (لا طويل ولا قصير) ولم يكن بالنحيل ولا بالسمين، ممتلئ الوجه وواسع العينين.

عن «ندوة الموسيقى اللحجية» كتب الاستاذ كرد: «تأسست في منتصف الخمسينات، لها لباس خاص وملافت شغل واحد ولون واحد وأحزمة (أكمار) لون واحد وكشايد عوذلي على الجبين والرأس، وشعار الندوة الموسيقية اللحجية (العود). قائد العود محمد السرحاني، وقائد الكمانات صلاح ناصر كرد، ومن عازفي الكمانات أذكر: أحمد سالم مهيد وفضل خضر وعوض حيدرة كرد، وأحياناً يرافقهم من عدن سالم عبدالله سالم». وعن المواهب الغنائية الواعدة التي انطلقت من داخل الندوة، وأسست لها مكانة فقد أوردها كرد وهم: عبدالكريم توفيق وفيصل علوي ويسلم حسن صالح ومحمد عوض شاكر وفضل كريدي.

استناداً لرواية الأستاذ كرد فقد شدت الندوة بأروع الألحان، التي أبدعها سواء صلاح كرد أو محمد سعد الصنعاني أو عبده عبدالكريم أو الأمير محسن بن أحمد مهدي، صاحب رائعة (دق القاع دقة لا تجهب ولا) ومن ألحان صلاح كرد غنى فيصل علوي (أسألك بالحب يا فاتن جميل) من كلمات أحمد عباد الحسيني، وغنى عبدالكريم توفيق (تقول العين ذا ملكي) من كلمات أحمد عباد، وغنى يسلم أحمد صالح (أبا يا مهلى) من كلمات صالح مهدي العولقي، وغنى يسلم حسن صالح (يا تريف البدن) من كلمات أحمد عباد، وغنى عبدالكريم توفيق (ظبي الجنوب) من كلمات عبدالخالق مفتاح، الذي شكل مع أحمد عباد ثنائياً لاصقاً بكرد، كما غنى له أحمد عمر اسكندر من الوهط (بغنجه والدلال).

الندوة في مثلث لحج - عدن - أبين
ارتبطت الندوة الموسيقية اللحجية بمثلث لحج - عدن - أبين، وقد أحيت عدة ليال ساهرة على مسرح كلية بلقيس في الشيخ عثمان ومسرح مدرسة البادري بكريتر، وعلى مسرح مدينة جعار شمال أبين، وفي أمسيات ساهرة أحيتها الندوة على مسرح البادري بكريتر ومسرح جعار، قدمت الندوة إلى جانب الفقرات الغنائية تمثيلية (القاضي) من تأليف الأستاذ محمد أحمد كرد.

كما ارتبط صلاح كرد، قائد الندوة، بصداقات طيبة مع شخصيات معروفة في عدن، منهم المناضلان الوطنيان إدريس أحمد حنبلة ومحمود عبدالله عراسي، وفي أبين منهم الأمير صالح مهدي عولقي، مؤلف أغنية (أبا يا مهلى) والأمير صالح حسين عولقي. «إن جذبه للعناصر الموسيقية من عدن مثل الأستاذ نديم عوض وسالم عبدالله سالم والموسيقي يحيى مكي، وخلقه عرى الصداقة والزمالة الفنية بين لحج وعدن وأبين» (لطفي حسين منيعم: الغناء اللحجي، أعلام وأحداث، ص 139) يعزز فرضية انتشار الندوة وقائدها صلاح ناصر كرد.

أسلوب صلاح كرد في الإدارة
كان صلاح كرد مراعياً للجوانب الهامة في إنجاح رسالته في قيادة الندوة، ومن تلك الجوانب رعايته للمواهب الواعدة بإعطائها الفرص للتدريب والصقل من خلال مقر الندوة الكائن في (حوش الكرود) ثم انتقلت إلى خلف الشارع الرئيسي (دكان سعد الجدع) وآخر مقر لها بيت الأمير نصر تحت بيت الفنان فضل محمد اللحجي في الشارع الرئيسي، كما كان صلاح دقيقاً في توزيع ريع كل حفلة على الفنانين والعازفين المشاركين، وكان يخص الندوة بنسبة من ذلك لمواجهة التزاماتها.

كان صلاح يراعي دقة الوعود التي يقطعها مع آخرين، وحدث أن التزم مع صاحب حفل زواج في بير فقم (البريقة) على إحياء الحفل وصادف ذلك الالتزام حفل زواج قائد الجيش الأمير عبدالله بن علي، فطلب السلطان فضل بن علي من صلاح إحياء الحفل، فاشترط صلاح موافقة من التزم له، فقام باستدعاء الرجل، وتم الاتفاق على أن يحيي صلاح الحفل أثناء المقيل في الحفل السلطاني، والسمرة أثناء حفل الزواج في بير فقم.

الرحيل المأساوي لصلاح كرد
اتفقت قيادة جيش الاتحاد الفيدرالي مع الندوة الموسيقية اللحجية على إحياء حفل في أحد المعسكرات في أبين، وكان ذلك في شهر يوليو 1966م، وعند أحد المنعطفات في منطقة الكود انقلبت السيارة التي أقلت الفرقة الفنية، ومن ضمنهم الفنانون فؤاد الشريف وعبدالكريم توفيق وفيصل علوي وفضل كريدي وسعودي أحمد صالح وعبدالله محمد حنش وعلي حسن العودي، وأسفر الحادث المؤلم عن وفاة صلاح كرد وعلي فقيه، وأصيب آخرون بجروح ورضوض.

منحت قيادة الجيش تعويضاً قدره (20) ألف شلن لأسرة الفقيد صلاح كرد، وبعد التشاور مع أسرته تولى الأمير محسن بن أحمد مهدي التصرف بالمبلغ واشترى لأولاد الفقيد ثلاثة مساكن في دارسعد تحقق إيراداً شهرياً يعين الأسرة، التي فقدت تلك المساكن بعد صدور قانون تأميم المساكن عام 1972م.

مهرجان القمندان يستثني صلاح كرد
كرم الفنانون الكبار عبدالله هادي سبيت وعبده عبدالكريم ومحسن أحمد مهدي وفضل محمد اللحجي ومحمد سعد الصنعاني وصالح نصيب، في مهرجان القمندان الثالث، وأعرب الأستاذ محمد أحمد كرد، في موضوعه المشار إليه سلفاً، عن حزنه وعتابه لاستثناء الفنان الكبير صلاح ناصر كرد، وكيف نسيت أو تناست لجنة الترشيح أثناء إعداد قائمة المرشحين.

رحل صلاح كرد من دار الفناء إلى دار البقاء، مخلفاً وراءه فصولاً من الكفاح من أجل رسالة الفن، وأغاني لا تزال ساكنة في ذاكرة الأجيال وفي مكتبة الموسيقى، كما خلف وراءه (4) أولاد و(3) بنات.

2- أحمد صالح البيضاني: العصامي الذي خاض مجال التصدير...المولد والنشأة..من مواليد 1908م في الحي الكريتري العريق «حافة حسين» التي ارتبط اسمها بالسيد حسين الأهدل، أحد الرجال الصالحين الذي استوطن ذلك الحي وأنشأ مسجداً ارتبط باسمه أيضاً. نشأ أحمد صالح البيضاني مع أقرانه من أبناء حافة حسين المنتمين لأسرة عدنية عريقة كأسرة جرجرة (الشيبة) ولقمان وخليفة وغانم وعبدالقادر صالح والصعيدي والسعيدي وربيع وعلي شفيق ومرشد والقائمة طويلة.

تلقى أحمد صالح بيضاني تعليمه الأولي في كتاتيب كريتر (عدن)، وفي تلك المدينة الجميلة تلقى تعليمه في مدارسها، وأبدى خلال سنوات دراسته اهتماماً باللغة الانجليزية التي وفرت له أساس الخبرة في الوظيفة ومدرسة الحياة عامة.

البيضاني يكسر قيود الوظيفة
التحق أحمد صالح بيضاني في الثلاثينات من القرن الماضي بشركة انتوني بس Antonine Bess Co.، رجل الأعمال الفرنسي المشهور، الذي أسس نفسه في عدن، وانتشرت تجارته في عدن والحديدة ومدن القرن الأفريقي، وقضى بضع سنوات في تلك الشركة العريقة حيث عمل موظفاً في المخازن.

في مطلع الأربعينات من القرن الماضي عزم أحمد صالح بيضاني على كسر قيود الوظيفة، بعدما اختمرت فكرة الخروج الى ميدان العمل الحر، معتمداً على ما وفره من مال متواضع وما تراكم لديه من خبرة في العمل التجاري، مضافاً لها حسه التجاري، وساعده في ذلك المناخ التجاري الجاذب للعمل، وكان البيضاني في مرحلة الشباب بما تحمله من طاقة وطموح.

عمل أحمد صالح بيضاني في مجال الاستيراد والتصدير والتجارة العمومية، وحقق مكاسب طيبة من تصدير اللبان وبعض الأحياء البحرية وعظام البنجيز والصدف وغيرها، وفتح أسواقاً جديدة لها في بريطانيا وأمريكا وأوروبا.

البيضاني يفتح خطاً جديداً مع صهره المطري
حقق أحمد صالح بيضاني تراكماً طيباً في رأس المال، وطرق باب المقاولات بالاشتراك مع صهره أحمد سالم مطري، من سكان مدينة المعلا والذي كان عضو المجلس البلدي بعدن، ثم عضو المجلس التشريعي، والذي أصبح فيما بعد وزيراً للأراضي في حكومة السيد زين باهارون وعبدالقوي مكاوي.

تميز السجل العام لأحمد صالح بيضاني بأنه جمع بين دائرة أعماله التجارية ودائرة علاقاته الاجتماعية، التي اتسعت لتشمل عدداً كبيراً من رجالات عدن البارزين من آل لقمان وجرجرة وباشراحيل والصافي (خاصة السيد علي الصافي، والد أحمد علي الصافي، مدير عام كهرباء عدن السابق) وباهارون وراجمنار (خاصة عميد الأسرة الحاج ياسين راجمنار والد مصطفى راجمنار).

أعمال البيضاني في الجانبين الديني والدنيوي
تنوعت تبرعات أحمد صالح بيضاني وجمعت الجانبين الديني والدنيوي، فكان يسهم مع رجال الخير بدفع حصته في حملات جمع التبرعات لبناء بيوت الله، وكان من جانب آخر يتلمس أوضاع الأسر الفقيرة والأطفال المنكوبين بوفاة والديهم، فكان يخصص هامشاً من دخله لصالح أوضاع الأسر المحتاجة بانتظام، كما دفع نصيبه من التبرعات التي قام بحملتها الشيخ الجليل محمد بن سالم البيحاني من أجل إنشاء «المعهد العلمي الإسلامي» ثاني أكبر صرح تعليمي في جنوب الجزيرة العربية بعد كلية عدن في الشيخ عثمان، والذي افتتح عام 1957م.

كما ساهم أحمد صالح بيضاني في دعم الثورة الجزائرية في أواسط الخمسينات من القرن الماضي، والتي تصدرت حملاتها «رابطة أبناء الجنوب العربي»، ولم يبخل البيضاني على الأحزاب الوطنية التي سادت الساحة في عدن في تلك الفترة، وكان ينفق مع آخرين على تلك الأحزاب.

يونيو 1967م يحمل نكستين
حمل شهر يونيو 1967م النكسة التي أصيبت بها الأمة العربية والمعروفة بـ «نكسة حزيران»، واختتم نفس الشهر مأساته عندما فاضت روح أحمد صالح بيضاني إلى بارئها في 30 يونيو 1967م، مخلفاً وراءه (4) أبناء هم: المحامي علي، (2) الخبير حسين المغترب في الإمارات، (3) محمد، مغترب في الإمارات، (4) سمير، مغترب في الإمارات، وخلف (4) بنات، كبراهن أرملة الشهيد أحمد عبدالقادر صالح، مدير هجرة عدن الأسبق.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى