تخطيط الطاقة البشرية للعمل في الدولة والمجتمع

> «الأيام» امذيب صالح احمد:

> تعتمد التنمية البشرية أساساً على العمل المثمر والمنتج والمنظم للقوى السكانية البشرية في مختلف المجالات الاجتماعية والاقتصادية، الذي يتحول كل يوم الى عمل جار ومال متراكم. فالتزايد في الإنتاج يعتمد كلية على زيادة عمل ونشاط كل القادرين رجالاً ونساءً من السكان من مختلف الفئات العمرية، وإذا كانت زيادة عمل هذه القوى البشرية العاملة والفاعلة من السكان تعتمد على كفايتها من كل قدرات الطاقة البشرية، فإن هذه الطاقة من القوى البشرية لا يمكن أن تتحقق تحقيقاً فعالاً وجباراً إلا بتخطيط سليم للقوى السكانية العاملة، لأنها تمثل في المجتمع والدولة وفي خططهما الاقتصادية والاجتماعية كل شيء فهي الغاية والوسيلة. والقضية التي يجب توضيحها الآن هي كيف نفهم تخطيط الطاقة البشرية للقوى الفعَّالة من السكان؟

ينقسم مفهوم تخطيط الطاقة البشرية للعمل في المجتمع والدولة الى جزئين رئيسيين هما:

أولاً: تخطيط حاجة العمل من الطاقة البشرية في الدولة والمجتمع وأهدافها.

ثانياً: تخطيط التوزيع المتوازن للطاقة البشرية بين القطاعات والمناطق.

إن هذين الجزئين اللذين يتكون منهما مفهوم تخطيط الطاقة البشرية للعمل في المجتمع والدولة حينما يتحدان ويتفاعلان بنيوياً وعضوياً في تخطيط سليم يوصلان الى نتيجة حتمية واحدة وهي زيادة العمل زيادة عظيمة وتحسينه تحسيناً كبيراً فتصنع به المعجزات الاقتصادية والمنجزات الاجتماعية الكبرى التي تتحقق بها التنمية البشرية الشاملة في المجتمع والدولة.


الجزء الأول .. (تخطيط حاجة العمل من الطاقة البشرية في الدولة والمجتمع وأهدافها)

ترسم الدولة أهداف وآفاق تطور المجتمع الشامل في كافة المناحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ويكون هذا الرسم على مراحل زمنية في شكل خطط اقتصادية شاملة وخطط عمل جزئية تتفرع منها وتتحرك في إطارها ضمن التطور التاريخي للمجتمع بحيث يكون رسم الخطط الاقتصادية والاجتماعية وفق هيكل اقتصادي وإداري يلبي مطالب القوى السكانية في المجتمع والدولة في تلك المراحل المعينة من الزمن، غير ان كل الأهداف الطويلة والقصيرة لا تهدف في نهايتها إلا الى تلبية الحاجات الأساسية والحضارية للتنمية الإنسانية في صورة خدمات أساسية متكاملة راقية ضمن هيكل اقتصادي قوي وصلب يحمي هذا المجتمع للقوى البشرية العاملة.

وبما ان الخطة الاقتصادية والاجتماعية هي عبارة عن «عمل» مطلوب من القوى البشرية العاملة من السكان تأديته في زمن معين، فإن القضية الأولى هي ان هذه الخطة يجب ان تفصل حسب قدرات القوى السكانية العاملة والمقتدرة الموجودة في زمن معين، ومؤدى هذه الفكرة انه مادامت قوى السكان البشرية هي غاية ووسيلة العمل معاً فإن الوسيلة تسبق الغاية من حيث التنفيذ، وهو ما يوجب علينا أسبقية تخطيط حاجة العمل من الطاقة البشرية العاملة والمقتدرة وطرق تلبيتها للخطة الاقتصادية والاجتماعية قبل وضعها في ثوبها النهائي، فالثوب لا يفصل إلا على جسم ذي حجم معين.

علينا إذن أن نتعرف على حالة هذا الجسم في المرحلة المعينة لتنفيذ الخُطة. إن القوى السكانية العاملة كأي كائن حي قابلة للتناقص والتزايد والنمو كماً ونوعاً، وما يهمنا معرفته أولاً هو أعدادها القادرة على العمل ثم أعدادها المتناقصة خلال مرحلة العمل المعين (الخُطة) ثم نموها وطرق تنميتها وصقلها ثم تقدير حاجة مختلف الأعمال المطلوبة لها في الخُطة وأخيراً توزيع هذه القوى السكانية العاملة وأعدادها حسب حاجة العمل الذي رسمته الخطة. إذن يتبدى لنا من هذا القول ان الموازنة يجب أن تكون حاصلة بين ما هو مطلوب من قوة الشعب العاملة والمقتدرة العاطلة وبين ما هو موجود منها حتى تنفذ الخُطة تنفيذاً سليماً. والثانية أن نوع العمل المطلوب (خُطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية) هو الذي يتحكم في طريقة إعداد القوى العاملة من السكان لمواجهة العمل المطلوب مستقبلاً.

وعليه فإن التنمية البشرية في المجتمع والدولة تتطلب تخطيط حاجة العمل من الطاقة البشرية وطرق تلبيتها في خطط زمنية منتظمة وذلك بإيجاد صيغة للتوازن والتعادل بين القوى البشرية المطلوبة لتسيير القطاعات العامة والخاصة والتعاونية والمختلطة في مختلف المرافق والمصالح والشركات والمؤسسات والمعامل والمواقع لتنفيذ الخطط التنموية والجارية المرسومة وبين إمكانيات وقدرات القوى البشرية المتاحة وتلك التي يجب إيجادها وإتاحتها خلال الخطط الزمنية كماً ونوعاً في المجتمع بكافة صورها من الطاقات والقدرات البشرية وذلك لتحقيق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية العريضة في تخطيط حاجة العمل من القوى البشرية للعمل وطرق تلبيتها في المجتمع والدولة والتي يمكن حصرها في عشرة أهداف كبرى. وهذه الأهداف العشرة لتخطيط الطاقة البشرية وموازنة الحاجة وطرق تلبيتها هي في ذات الوقت وسائل أساسية من وسائل تنفيذ الخطط الاقتصادية والاجتماعية، ويمكن حصر أهداف تخطيط حاجة العمل من الطاقة البشرية التي هي في نفس الوقت وسائل لتنفيذ الخطط الاقتصادية والاجتماعية في القضايا الرئيسية التالية: (1)معرفة تركيب القوى البشرية العاملة، (2)القضاء على البطالة الإفقارية،(3)تخطيط التعليم والتدريب للتنمية، (4) تقدير الأجور ضمن تكلفة الخطط الإنمائية، (5) تفصيل الخطط الإنمائية حسب الطاقة البشرية، (6)إنجاز الخطط الإنمائية الطويلة والقصيرة، (7)تعويض نقص الطاقة البشرية بالزمن، (8)تخطيط استخدام الآلة وتنظيم العمل، (9)تحديد البداية والنهاية لسن العمل في كل مهنة، (10)تنظيم النسل بالتكاثر او التناقص، التي نستعرضها أدناه بإيجاز كما يلي:

1- معرفة تركيب القوى البشرية العاملة
يهدف تخطيط حاجة الدولة والمجتمع من الطاقة البشرية للعمل إلى معرفة تركيب القوى البشرية العاملة لدى أصحاب الأعمال والقوى البشرية العاطلة والمعطلة في أسواق الأعمال من حيث أعدادها وتخصصاتها ومستوياتها ومهارتها وتعليمها وتدريبها وجَذْرِها (Gender)ذكورة وأنوثة، وأعمارها وتوزيعاتها ضمن كافة المجالات الاجتماعية والاقتصادية المختلفة وتكوين صورة بيانية إحصائية تفصيلية عن تركيب هذه القوى على مستوى نوع النشاط الاجتماعي ومجال القطاع الاقتصادي وإقليمياً على مستوى المحافظات ودوائرها وكل مناطق الجمهورية جملةً وتفصيلاً، وجعل هذه الإحصاءات تتدفق دورياً بانتظام ودقة الى الجهات المختصة حتى يستفاد منها في تقدير وتخطيط النشاط الإنمائي الحالي والمستقبلي بمختلف ألوانه الإنفاقية من استثمار وتوزيع واستهلاك في كافة مناحي المجتمع والدولة.

2- القضاء على البطالة الإفقارية
يهدف تخطيط حاجة الدولة والمجتمع من الطاقة البشرية للعمل إلى البحث عن المصادر السكانية المختلفة للقوى البشرية العاملة والمقتدرة سواء كان ذلك بحصر الفوائض من القوى البشرية العاملة أو المعطلة لدى مختلف أصحاب الأعمال في الدولة والمجتمع او في أسواق العمل أو بجذب قطاعات سكانية جديدة إلى العمل المنتج والمثمر بحيث يتم امتصاص البطالة السافرة والمقنعة الناشئة عن مخرجات التعليم والنمو السكاني او عن سوء التوظيف او التعطيل بالإقعاد والتقاعد، والقضاء على البطالة تدريجياً وتوزيع هذه القوى البشرية العاملة توزيعاً متوازناً بين القطاعات الاقتصادية والاجتماعية المختلفة أفقياً ورأسياً حسب حاجتها الفعلية ضمن الخطط الجارية الإنمائية سواء أكانت تلك الخطط في شكل موازنات جارية او استثمارية وذات آماد قصيرة او متوسطة او طويلة حسب الاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية للتطور والتقدم.

3- تخطيط التعليم والتدريب للتنمية
يهدف تخطيط حاجة المجتمع والدولة من الطاقة البشرية للعمل الى وجوب توجيه التعليم والتدريب والإعداد للقوى العاملة وترشيده في خدمة العمل في جميع مجالاته، أي ان سياسة التعليم ينبغي ان توجه لتطوير الواقع الحياتي والحضاري للقوى البشرية السكانية لا أن ترسم خطط تعليمية لا ترتبط كماً او نوعاً بواقع ومستقبل تطور القوى الاجتماعية العاملة بالقدر الذي ينفق فيها من وقت وجهد ومال. إن الخطط التنموية الاقتصادية والاجتماعية القصيرة أو الطويلة تحدد حاجة المجتمع والدولة من القوى البشرية العاملة في شكل «مهن وصنع وحرف ووظائف» ذات تخصص معين ومهارة بدرجة معينة يحتاج إعدادها إلى تعليم وتدريب وتأهيل بمدد محددة ومستويات معينة من خلال تجهيز مدارس ومعاهد وجامعات وأماكن لهذا الغرض وبمدرسين ومناهج ووسائل تعليمية تحقق حاجة المجتمع والدولة من مختلف الأعمال والمهن المطلوبة، التي تتحول إلى هدف للتعليم والتدريب وتقرر مصير تخطيطه. ولهذا فإن التعليم والتدريب يجب أن يخطط ويوجه حسب حاجة الخطط التنموية الاقتصادية والاجتماعية الدائمة والمؤقتة وسواء أكانت طويلة أو قصيرة التي تهدف إلى تلبية حاجات المجتمع والدولة من العمل في صورة شتى المهن والمهارات، شريطة أن يكون التعليم متوازناً بين مختلف العلوم المادية والطبيعية والتطبيقية من جهة وبين مختلف العلوم الإنسانية والاجتماعية الأخرى من جهة ثانية ضمن قيم المجتمع وأخلاقه وكرامة المواطنين فيه وبما يحفظ الهوية العربية الإسلامية لهم لبناء وطن متطور حضاري قوي بالعلم والمعرفة والأخلاق.

4- تقدير الأجور ضمن تكلفة الخطط الإنمائية
تتكون تكلفة كل مشروع اقتصادي أو اجتماعي سواء أكان في شكل مرفق قائم أو مخطط من نفقات استثمارية وإدارية وأجور للقوى البشرية العاملة، وهذه الأجور لا يمكن تقديرها ما لم تكن الوظائف والمهن بمستوياتها ودرجاتها المطلوبة لمشروع العمل معروفة سلفاً بصفة عامةً. ولا تعرف هذه الوظائف والمهن إلا بواسطة تخطيط حاجة العمل من الطاقة البشرية في المجتمع والدولة. وهذا يعني أن تقدير تكلفة الأجور ضمن أي مشروع عمل يُسهِّل وضع ميزانية تقديرية صائبة لكل مشروع اقتصادي أو اجتماعي على حدة، وللخطط الاقتصادية والاجتماعية كلها مجتمعة سواء كانت طويلة أو قصيرة إجمالياً وتفصيلياً على المستويين المحلي والمركزي في أجهزة الدولة أو البنيان الاجتماعي للشعب العامل في مختلف القطاعات الأخرى.

5- تفصيل الخطط الإنمائية حسب الطاقة البشرية
ان معرفة حجم القوى البشرية وطاقتها معرفة صحيحة يحدد لنا حجم المشاريع الاقتصادية والاجتماعية ونوعيتها، إذ أن هذه المشاريع لا يمكن تصورها إلا على أساس واقعي من القدرة والطاقة البشرية في التنفيذ. لذلك فإن الخطط الاجتماعية والاقتصادية تتفصل في شكلها النهائي حسب الطاقة البشرية المتوفرة كما تبينها خطة موازنة حاجة المجتمع من الطاقة البشرية للعمل، وهذا يفترض تخطيطاً انه لا بد من وجود الخيارات والبدائل في مشاريع الخطط ذاتها سواء في حجمها أو نوعيتها، حتى تتناسب مع حجم الطاقة البشرية المتاحة وقدراتها وحتى يوفق بين الأهداف المرسومة وإمكانات التنفيذ بغير تجميد للمشاريع الإنمائية أو تبديد لطاقة العمل البشرية والمادية.

6-إنجاز الخطط الإنمائية الطويلة والقصيرة
يهدف تخطيط الطاقة البشرية للعمل حسب الحاجة إلى توفير الطاقة الإنسانية المناسبة من القوى البشرية العاملة القادرة على إنجاز خطط الإنماء الاقتصادي والاجتماعي الجارية والاستثمارية حسب مددها المختلفة، لأن الخطط التنموية هي عبارة عن عمل في الحاضر والمستقبل. والعمل كما هو معروف لا ينفذ إلا بالقوى البشرية العاملة، فهي تقريباً نصف كل مشروع اجتماعي او اقتصادي المتكون دائماً من مال وبشر، وما لم توجد الطاقة البشرية فيه فلا قيمة للمال بغير نشاط هذه القوى البشرية وحركتها وفعلها به وفيه. فكما تبين سالفاً ان الإنسان ليس هدفاً للتنمية الإنسانية والمادية فقط ولكنه وسيلتها أيضاً.

6- تعويض نقص الطاقة البشرية بالزمن
إن تخطيط الطاقة البشرية للعمل يهدف إلى تقدير حاجة العمل من القوى الوظيفية سواء كان ذلك على مستوى المشروع أو الجهاز أو القطاع أو المحافظة او الجمهورية، خلال مدة معينة من الزمن في شكل خطة قصيرة أو متوسطة أو طويلة أو غير ذلك. وفي كثير من الأحوال تحسب الحاجة من القوى العاملة بساعات الزمن المطلوبة لإنجاز الأعمال وليس بعدد الأشخاص. ومعنى هذا ان ساعات العمل المطلوبة كقوة عمل يمكن سدها بنفس القوى البشرية العاملة الموجودة إذا هي زادت من اشتغالها زمناً إضافياً يوازي عدد الساعات الزمنية المطلوبة. ومؤدى ذلك انه ليس مطلوباً من السلطة المخططة أن تبحث عن قوى بشرية جديدة لتوظيفها إذا كانت الجهة المحتاجة لقوى بشرية إضافية تستطيع استخدام الزمن الإضافي في العمل لسد حاجتها بنفس القوى العاملة الموجودة لديها كلما كان ذلك ممكناً، شريطة ألا يكون ذلك قبل امتصاص البطالة في سوق العمل ودون أن يؤدي الى إرهاق للعاملين. وللتدليل على كيفية استخدام الزمن كبديل لقوى عاملة إضافية نقول إنه إذا كانت طاقة العمل في هذا العام تقدر بمليوني ساعة وكانت الحاجة إلى قوى وظيفية إضافية في العام القادم ذات طاقة تساوي ربع مليون ساعة عمل فإنه بالإمكان تشغيل نفس القوى الوظيفية بغير إضافة أحد إليها بحيث تؤدي مليونين وربع المليـون من الساعات في العام القادم إذا سمـح تنظيم العمل بذلك.

8- تخطيط استخدام الآلة وتنظيم العمل
إن تخطيط الطاقة البشرية للعمل حسب الحاجة هو معادلة بين طاقة العمل المطلوبة وبين طاقة العمل المتوفرة، وبما أن طاقة العمل ذات صور مختلفة فإن إحدى صورها هي الآلة والتكنولوجيا، كما إن إدارة العمل وتنظيمه هي صورة أخرى لتوفير الطاقة البشرية في العمل، فبدلاً من تحديد الحاجة للطاقة البشرية في صورة قوى عاملة بشرية جديدة تستطيع الجهة الطالبة إعادة تنظيم أعمال الأفراد بطريقة مبسطة ومختصرة ومركزة بحيث يقتصد في الجهد البشري ويكثف العمل في الزمن ذاته. أما الآلة والتكنولوجيا فهي عبارة عن طاقة مادية هائلة توازي أضعافاً مضاعفة للطاقة البشرية. فإذا كانت الآلة قد استطاعت ان تستبدل عضلات الإنسان وجهده البدني فرادى وجماعات فإنها قد استطاعت أيضاً بواسطة الحاسب الآلي ان تتغلغل إلى الأعمال الذهنية تغلغلاً سريعاً وعميقاً وكبيراً. ان بعض الآلات تستطيع ان تبذل جهداً يقاس بآلاف الساعات وبعضها بملايين الساعات. وإذا كانت الجهة المحتاجة للقوى الوظيفية لا تستطيع سد حاجتها من القوى الوظيفية بعد إجراء الموازنة بين العرض والطلب في الطاقة البشرية، فعليها ان تدرس بعناية نوعية الآلات والتكنولوجيا التي تستطيع إدخالها في العمل وفق الشروط التالية: (أ) أن لا يكون إدخال الآلة والتكنولوجيا على حساب استمرار تعطيل الإنسان وإبقاء البطالة. (ب) أن يكون إدخال الآلة والتكنولوجيا مناسباً للبيئة والتطور الاجتماعي ويسهل السيطرة عليه معرفةً وإصلاحاً واستعمالاً وتطويراً. (ج) أن تكون الجدوى الاقتصادية للجهد الآلي أعظم نفعاً من الجهد البشري البديل وأنسب لنوعية العمل المطلوب.

9- تحديد البداية والنهاية لسن العمل في كل مهنة
إن تخطيط الطاقة البشرية حسب حاجة العمل يبين لنا إن كان هناك توازن أو اختلال بين حاجة العمل المخطط مستقبلياً وبين الموارد المتاحة من القوى البشرية العاملة. فنحن نعرف ان حاجة العمل هي عبارة عن خطط اقتصادية واجتماعية وأن هذه الخطط هي وسيلة للتطور والتقدم وإذا حدث ان حاجة العمل هي أكبر من طاقة العمل المتوفرة اجتماعياً في صورة الطاقة البشرية المتاحة ورؤي أنه يمكن حل ذلك جزئياً بتحديد سن البداية والنهاية لأعمار القوى البشرية العاملة حسب أنواع المهن في كل مجال، فإنه يمكن تصغير سن الالتحاق بالعمل وتكبير سن التقاعد في أسلاك بعض المهن حسبما تقتضيه كل مهنة، بحيث يكون العمر الزمني لشغل القوى البشرية العاملة اكبر مما سبق ومعنى هذا أن عدة أعوام من الشغل في عمر الإنسان ستتحول إلى ملايين عديدة من ساعات العمل المطلوبة اجتماعياً. أما إذا وجد ان حاجة العمل هي اقل من القوى البشرية العاملة رغم انعدام البطالة وكان المجتمع متطوراً تطوراً كبيراً فإنه عندئذ يمكن تكبير سن الالتحاق بالعمل وتصغير سن التقاعد حسبما تقتضيه طبيعة المهن لأن في هذا إقلالاً للطلب على القوى العاملة وتقصيراً لعمر شغلها مما سيؤدي إلى إنقاص ساعات عملها خلال حياتها، ومثل هذا لا يمكن تطبيقه إلا في مجتمع متقدم راقٍ جداً ومتخلصٍ من شرور البطالة بمختلف ألوانها. والتقاعد المقصود به هنا هو التقاعد من المهنة وليس من العمل، فالعمل هو حياة الانسان مادام قادراً على الفعل وليس كما يظن سفهاء العقول من المسؤولين الذين يستحقون التقاعد وفقاً للشريعة والقانون قبل غيرهم حَجراً على فسادهم وإفسادهم، لأن الانحراف العقلي والعجز الأخلاقي المؤدي الى الفساد هو أحق بالإقعاد والإبعاد عن مصالح الشعب لأنه يندرج تحت باب العجز الصحي بالمصطلح الغربي.

10- تنظيم النسل بالتكاثر او التناقص
إن تخطيط الطاقة البشرية حسب حاجة العمل يكشف عن مدى تلبية المصادر السكانية لحاجة العمل المرسوم في شكل خطط اقتصادية واجتماعية على مراحل متلاحقة طوال حياة المجتمع. فإذا وجد أنه حتى بعد تنفيذ خطط اقتصادية واجتماعية علمية لم تستطع المصادر السكانية للمجتمع مواجهة الزيادة في الطلب على القوى العاملة والمقتدرة في أسواق العمل، فلا بد من اتخاذ سياسة فعالة لتشجيع التناسل إذ ان الزيادة المثلى للثروة البشرية لا تكون إلا بهذه الوسيلة. أما إذا وجد أن العكس هو الحاصل أي أنه رغم التخطيط السليم فإن القوى السكانية من البشر هي أكثر من حاجة العمل الاجتماعية ويؤدي تكاثرها بالتوالد إلى إنقاص معدلات النمو فلا بد من اتخاذ سياسة جريئة تحد من التناسل بالتنظيم مادام النمو السكاني أعلى نسبة من القدرة على النمو الاقتصادي والاجتماعي شريطة ان يكون المجتمع خالياً من الفساد والظلم الاستغلالي والبطالة التي تعتبر جميعها من معطلات ومبطلات التنمية والتخطيط على جميع الأصعدة.

الجزء الثانـي .. (تخطيط التوزيع المتوازن للطاقة البشرية بين القطاعات والمناطق)

إذا كانت حاجة العمل من الطاقة البشرية قد خُططت تخطيطاً سليماً، فإن تلبية هذه الحاجة بالتوزيع المتوازن سيكون مطلباً تخطيطياً هاماً لحسن استخدام وتوزيع الطاقة البشرية أفقياً ورأسياً في المجتمع والدولة. فالتوازن الاقتصادي والتعادل الاجتماعي يُكوِّنان الأساس المتين للمجتمع الانساني والدولة في الإسلام. ولذلك فإن تخطيط التوزيع المتوازن للطاقة البشرية بين القطاعات والمناطق سيقوم على الأسس التالية التي سنتعرض لها لاحقاً وهي: (1) التوازن بين قطاع الخدمات وقطاع الإنتاج،(2) التوازن بين القطاع الزراعي والقطاع الصناعي، (3) التوازن بين القطاع العام والقطاع الخاص، (4) التوازن بين الأرياف والحواضر، (5) التوازن بين الوحدات الإدارية والمناطق الجغرافية، (6) التوازن بين مختلف المهن الأساسية كماً ونوعاً.

1- التوازن بين قطاع الخدمات وقطاع الإنتاج
إذا كان أحد أسس تخطيط الطاقة البشرية العاملة هو في تخطيط التوزيع المتوازن للطاقة البشرية بين القطاعات المختلفة، فإن القاعدة الأولى في هذا التخطيط هي إيجاد توازن كمي ونوعي للقوى العاملة المطلوبة بين قطاع الخدمات وقطاع الإنتاج. إن التوازن هنا تتحكم فيه عوامل كثيرة غير أن أهم شيء ينبغي ذكره هنا هو أن قطاع الخدمات يجب أن يكون على درجة كبيرة من الكفاءة حتى لا يستأثر بعدد كبير من القوى العاملة، لأن هذا القطاع يخدم مباشرة الانسان الذي ينتج الخيرات المادية والروحية في جميع الميادين، وأي ترهل فيه هو عبء على أداء القوى العاملة في مجال الخدمات وعبء على قدرة القوى البشرية العاملة في توفير «الفائض الاقتصادي» المنشود دائماً للاستثمار والتنمية في كل عمل اقتصادي واجتماعي.

إن وظيفة قطاع الخدمات هي «صيانة» القوى البشرية العاملة، وهذه الصيانة تعني أن قطاع الخدمات يتعامل ويتفاعل مع القوى البشرية ذاتها أي مع الناس أنفسهم وكل إجادة او إساءة لهذا التعامل تؤثر إيجاباً وسلباً على نفسية القوى البشرية العاملة وقدراتها وأوقاتها، فالخدمة يجب أن تكون فعّالة وسريعة مهما كانت نظم العمل فيها. فمثلاً قد يقتضي تنظيم أداء خدمة معينة في مجال معين تطبيق «إجراءات معينة» تستدعي الانتظار مدة من الزمن، فهذه «الإجراءات» مطلوبة ومرغوبة كنظام لتقديم الخدمة في المدة المخصصة لها ولكنها إذا تعقدت، أو طالت مدة هذه الإجراءات أكثر مما ينبغي وتحولت إلى تسويف او انتظار طويل مع أداء خدمة ناقصة فإن ذلك يعني أن «الزمن» يضيع في الانتظار بدلاً من ان تستفيد منه القوى البشرية العاملة في شيء نافع آخر. كما أن تشويه الخدمة أو تأخيرها يؤثر في نفسيات وقدرات القوى البشرية العاملة ذاتها، لأن المعاملات التي يقوم عليها قطاع الخدمات تحتاج الى وعي وإدراك وخُلق فاضلة حتى تنجز الخدمات بلطف ويسر وسرعة. أما قطاع الإنتاج فإن القوى العاملة فيه تتعامل وتتفاعل مع الطبيعة والأشياء والمواد في غالب الأحيان، ومهما كانت الطبيعة في طاعتها وعصيانها للإنسان فإنها حتى عند استعصائها تدفعه الى مزيد من التحدي والعمل، لأنها لا تخرب نفسيته وقدراته بل تنميها وتصقلها حتى في أوج قسوتها عليه، لكن الأمر غير ذلك في المعاملات بين الناس، ولهذا فإن علو مستوى الكفاءة الفنية والأخلاقية في قطاع الخدمات ضرورة هامة ولازمة. ومن هنا تكمن خطورة وأهمية نظم اختيار القيادات في أجهزة الدولة المختلفة ومؤسساتها الدستورية والشعبية ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب لأنها تندرج في قطاع الخدمات.

والعامل الآخر المؤثر على صيغة التوازن بين حاجة قطاع الإنتاج من طاقة القوى البشرية العاملة وحاجة قطاع الخدمات منها هو أن الأولوية يجب ان تكون دائماً لقطاع الإنتاج من حيث التقانة والكم والعدد، أما من حيث المهارة والكيف والنوع فإن قطاع الخدمات هو الأولى بها وبالذات في كافة مستويات الإدارة، إلا أن هذا لا يعني أنه ليس ضرورياً أن تكون كوادر قطاع الإنتاج ممتازة وجيدة لأن قياداتها خاصة يجب ان تكون على أرقى مستوى ممكن في القيادة والإدارة والمعرفة، غير ان قواعدها تحتمل الخامات البشرية ذات المهارات الفنية المتوسطة التي تنصقل وتتطور سريعاً عند ممارستها للعمل واحتكاكها بالآلة والطبيعة ومواردها. أما قطاع الخدمات الذي هو احتكاك بالبشر فإن قواعده وكوادره لا تحتمل التجريب في التعامل مع البشر، فالوعي (التأهيل) والخلق الحسن (السلوك المنظم) صفات أساسية للعمل في هذا القطاع الذي لا ينتج الماديات المباشرة ولكنه يصون مادياً وروحياً القوى البشرية العاملة صانعة الإنتاج والخيرات المادية. قد يقول قائل إن تطور الآلة والتكنولوجيا في الصناعة تؤدي الى الاستغناء عن جزء من القوى العاملة ليستفيد منها قطاع الخدمات مثلاً، وهذا ان صح في المجتمع المتقدم صناعياً فإنه لا يصح في المجتمع المتخلف الذي يزحف على طريق التقدم والبناء مثل المجتمع اليمني. وخلاصة القول إن مجال الخدمات لا يقل أهمية عن مجال الإنتاج المادي مادام يخدم القوى البشرية ويدفعها الى مزيد من العمل والإنتاج.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى