قصة قصيرة بعنوان (السر)

> «الأيام» مازن فاروق رفعت

> كان الجو بارداً في تلك الليلة - طبعاً بالنسبة لسكان عدن - خرجت متأخراً من مقر عملي بسبب عمل متراكم، باحثاً دون جدوى عن وسيلة مواصلات. الشوارع ارتدت ثياب الصمت المزركشة بنباح الكلاب، ومواء القطط، البيوت واقفة حائرة تتساءل عن الغد، أفاعي البرد تلدغ أوصالي. بينما كنت ماراً بجانب معسكر (22 مايو) فإذا بي ألمح شبحاً مستنداً على جدار المعسكر، لا أخفيك أن الرعب دب فيّ، رحت أتفحص بعيني لكنهما عجزتا أن تخترقا ستار هذا الليل الكئيب، دفعني الفضول دفعاً لأقترب وأتبين هذا الشبح، سرعان ما تحول خوفي إلى دهشة، عندما لمست عيناي طفلة صغيرة واقفة وقد أرخت رأسها على الجدار، وما عمق دهشتي ذلك البؤس الذي تنطق به هيئتها، ثوبها الممزق الذي ارتفع إلى ما فوق ركبتيها، قدماها العاريتان، استندت إحداهما على الأخرى كي تتدفأ، شعرها ليل آخر، لكنه يختلف عن هذا الليل الصامت، كان ليلاً مزدحماً بأصوات الكوابيس والمآسي، أما عيناها الواسعتان فقد بدتا مقبرتين دفنت فيهما براءتها. ظللت برهة أتأملها، ثم سألتها: ماذا تفعلين هنا في هذه الساعة المتأخرة من الليل؟ لم يبد عليها أنها سمعتني، فعاودت السؤال مرة أخرى، لكن دون جدوى، مددت يدي ألمس شعرها، انتفض جسدها الضئيل بعنف أربكني، رأيتها تنظر إلى في شك وريبة، ابتسمت بحنان لأنفض غبار الخوف عنها، لكنها استدارت للجدار وكتبت عليه بإصبعها حرف (الفاء)، اعتقدت أنها ستتابع لكنها لم تفعل، فسألتها عما يعنيه هذا الحرف، لم تجب بل غادرتني غير مبالية بمناداتي لها، حتى ابتلعها الظلام في جوفه. بقيت أنا والحيرة حتى صلاة الفجر، ثم اصطحبت حيرتي عائداً إلى البيت، ومنذ ذلك الحين، رأسي صار أسيراً لتلك الطفلة، والغموض الذي يكتنفها، وسر حرف (الفاء)، ترى هل هو أول حرف من اسمها؟ أم اسم عائلتها؟ أم ماذا يعني لها؟ الأرجح أنه أول حرف من اسمها، لكن لماذا لم تكتبه كاملاً؟

هل أرادت أن أكتشفه وحدي؟ أم أنها لا تريد ذكر اسم عائلتها؟ أعتقد أن هناك سراً في هذا الحرف! ترددت على ذلك المكان مرات عديدة ليلاً لكن لا أثر. مر شهر، محت الهموم خلالها صورة تلك الطفلة من رأسي، لترسم صورة الخبز. وفي ليلة هي أخت تلك الليلة، تكرر كل شيء، البرد، الخوف نباح الكلاب، مواء القطط، لمحتها مستندة على الجدار في المكان نفسه، وبالهيئة نفسها، وكأنها كانت البارحة، الجسد المتراخي، الشعر المجعد، العينان المطفأتان. ناديت عليها: فاطمة! لست أدري لماذا نطقت بهذا الاسم؟ لعله يكون اسمها! لكني كنت مخطئاً، لأنها بقيت صامتة كالصنم، سألتها عن اسمها وأهلها، وسبب وجودها هنا، لكن أسئلتي كانت تصطدم أمام حائط صلب من الصمت وتتحطم إلى شظايا من الغموض، فلما حاولت أن ألمس شعرها، فعلت ما فعلته من قبل، لكنها هذه المرة رسمت على الجدار حرف (القاف)، نمت حيرتي وأورقت، كنت في حرف (الفاء)، والآن حرف (القاف)! حاولت أن أسألها عن معنى هذا الحرف، لكنها استدارات مغادرة المكان، لكنني هذه المرة صممت على معرفة سرها. تبعتها، كانت تسير بغير هدى، كأنها مسحورة أو منومة مغناطيسياً. رحت أتبعها من زقاق إلى زقاق، ومن شارع إلى شارع، كان الفضول ينمو داخلي مع كل خطوة أخطوها، وقدماي تبتلعان الطريق بشراهة، فجأة رأيتها تتوقف لبرهة، ثم تستدير ببطء شديد نحوي، وهي ترمقني بنظرات ميتة لا مبالية، حاولت أن أقترب منها، لكنها ركضت لتدخل إلى أحد الأزقة، فدخلت خلفها، لأجد ظلمة حالكة، تحسست أمامي الطريق، فلمست جداراً يرتفع لأعلى من قامتي، تملكني العجب، إذا كان هذا المكان مسدوداً، فأين يمكنها أن تختفي؟! مستحيل أن تكون قد تسلقت الجدار! ثم إني دخلت خلفها مباشرة! هل انشقت الأرض وابتلعتها؟! أم أنها من الجن؟! وبقيت مرة أخرى أنا وحيرتي حتى صلاة الفجر. ومن يومها وأنا حبيس الحرفين (الفاء والقاف) وماذا يعنيان؟ وما علاقتهما بها؟ رغم محاولاتي لوقف نزيف الأسئلة بالتخمين، لكنه كان غير مجد، لأنها تحتاج إلى اليقين. ومرت عدة أسابيع على الحادثة الغامضة، كادت الهموم تمحوها من ذاكرتي تماماً، لكنها على الأقل أوقفت نزيف الأسئلة التي أرهقت عقلي. خرجت من منزلي على نداء الليل لي، يغريني لأسهر معه، وأشاركه وحدته، وأشرب معه كأس الهموم، فجأة! رأيتها!.. هناك! على بعد عشرة أمتار، واقفة ترمقني بالنظرة ذاتها، استدارت مغادرة، ركضت نحوها، حال الليل دون اقترابي منها، ماداَ ذراعيه، وكأنه يحميها، أو ربما يعرف سرها، قاومته، بحثت هنا وهناك، دون جدوى، ولما دعاني اليأس للعودة، رأيت القمر دانياً على جسم ممدد على الأرض، عرفت فيه الطفلة الصغيرة، وقد صارت جثة هامدة، لكنها لم تبد كذلك، فقد كان وجهها مضاء بابتسامة ساحرة، كأنها أميرة حسناء في ليل حزين، لفت انتباهي سبابتها الممدودة التي أرادت أن ترسم شيئاً على التراب، ربما أرادت أن ترسم حرفاً جديداً؟ ترى أي حرف كانت سترسم هذه المرة؟ وهل له علاقة بحرفي (الفاء والقاف)؟ جائز! لكني عرفت أنها كانت جثة مقيدة بتلك الحروف .. إنها الآن بعد أن تحررت منها، أصبحت حرة طليقة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى