خطوة إلى الوراء وخطوتان إلى الخلف

> حبيب عبدالرب سروري:

> في مثل هذه الأيام من كلِّ عام يظهر التقرير السنوي للأمم المتحدّة عن التنمية البشرية. يمكن شحنـُه، مثل تقارير الأعوام السابقة، مجاناً كاملاً (حوالي 400 صفحة) من موقع الأمم المتحدة على انترنت، الخاص بتقارير التطور البشري:http://hdr.undp.org/reports . تُرتـِّبُ هذه التقارير دولَ العالم سنويّاً حسب درجات «تنميتِها البشرية»: أهم وأدق مؤشر يشرح مستوى جودة أو بؤس حياة أهل كل دولة. احتلـَّت اليمنُ في ترتيب عام 2004 الموقعَ رقم 149 من 177 دولة، وتقدَّمَتْ هذا العام خطوتين إلى الخلف حيث جاء موقعُها 151 من 177! (كان موقعها 144 في عام 2002 و148 في عام 2003).

لحظة نشرِ هذا التقرير كلِّ عام لا تقلُّ أهميّةً عن لحظة توزيع نتائج الامتحانات الدراسية على الطلبة: ثمّة من يمرّ العام الدراسي بامتياز، ثمَّة من يمرّ «بالدَّهْفَة»، وثمّة من يرسب ويُفصَل من الدراسة! بنفس الطريقة، تـُوزَّعُ دول العالم في ذلك التقرير إلى ثلاث فئات: منها من تمرّ بامتياز (الدول المتطورة: أول 57 دولة في قائمة هذا العام)، منها من تمر فقط (الدول متوسطة التنمية: الـ 88 دولة التالية في القائمة)، ومنها من ترسب و«تُفـْصَل» من كوكب الأرض: (الدول ضعيفة التنمية: بقية الدول، آخر 32 دولة في القائمة، حيث تقبعُ اليمن).

لأهمية الحديث حول «مؤشر التنمية البشرية» يلزم التذكير أولاً بمدلول هذا المصطلح الكثيف، شديد الجوهريَّة. اخترع خبراء الأمم المتحدّة هذا المفهوم الحديث بغرض التحديد الدقيق لجودةِ حياة الإنسان أو سوئها في أي بلد كان. تـُحسب قيمةُ هذا المؤشر بصيغة رياضية تأخذ في عين الاعتبار كلَّ ما يؤثـّرُ على نوعيَّة حياة الإنسان: دخله المالي، مستوى الخدمات الصحية والتعليمية التي ينالها... يحسبُها طاقمٌ من الأخصائيين، خلال سنتين تقريباً، لكلِّ بلد على حدة. تنتهي حساباتُهم الدقيقة جدّاً برقم عشْريٍّ، بين الصفر والواحد، يُلخِّص مقدار السعادة أو البؤس في كلِّ بلد! يُشبِهُ درجةَ حرارة الإنسان المُقاسة بالترمومتر!

مثل الترمومتر تماماً: إذا وَصَلَتْ درجةُ الحرارة إلى الثالثة والأربعين أو أكثر فالمريض طائحٌ، على وشك الموت! كذلك إذا كان الكسرُ العشْريُّ لِمعدَّل التنمية البشريّة في أيّ بلد أقل من 0.5 فالبلد مريضٌ على وشك الانهيار، عالةٌ على الكرة الأرضية، لا أمل في تطوُّره في الواقع، منهارٌ «اكلينيكيّاً»، هالكٌ لا مُحالة، «لهُ الله»، كما يقولون!... يعيشُ أهلُهُ بأقلِّ من «نصف حياة»! بأقلِّ من نصف عمر، بأقلِّ من نصف دماغ، بأقلِّ من نصف قَلْب...آه، أن «تعيش بأقلِّ من نصف حياة»! يالروعة ودِقَّةِ وبشاعة هذا التعبير في نفس الآن!

اليمن هي الدولة العربية الوحيدة في القائمة السوداء المشكَّلة من الـ 32 دولة التي يقلُّ مؤشرُ تنميتها جميعاً عن 0.5! حتّى السودان تقع خارج هذه القائمة وتفصلها عشر دول عن اليمن! الغالبيّةُ الساحقةُ لتلك الدول مجهولةٌ من الخارطة: سيراليون، رواندا (التي أشهرتها حروب إبادتها الشنيعة لا غير)، بوركينافاسو، غينيا الاستوائية... أغلبُها بلا موارد تستحق الذكر في الغالب: الكاكاو، الجلود، البن، النارجيل... بعضها ضعيفة الموارد بشكل مطلق مثل جبوتي التي تتقدَّم مع ذلك على اليمن في ترتيب هذا العام 2005، والتي كانت خلفها في الأعوام الماضية!

معجزةُ اليمن، أو معجزةُ مهندسي الخرابِ الذين نهبوا ملياراتها وأحكموا توثيقَها في سلاسل التخلُّف والقبلية والفساد والجهل، أنها تقعُ ضمن تلك القائمة السوداء مع أن مواردَها البترولية تُدِرُّ عليها مليارات من الدولارات سنويّاً! مواردُها السمكيَّة والبحريَّة والملاحية غنيَّةٌ جدّاً! ناهيك أنها من أثرى دُول العالم بالمؤهلات السياحيّة. بعض الدول، مثل تونس، تحيا تقريباً بفضل ثروتها السياحية لا غير، حيث يصلُها أكثر من عشرة ملايين سائح سنويّاً! الدخل المالي والمستوى المعيشي لأهلها أفضل بما لا يمكنُ مقارنتهُ بِأهل اليمن، مع أن تونس لا تمتلك إلا قسطاً زهيداً جدّا مما تمتلكه اليمن من مقومات سياحية.

اليمنُ ثلاثةُ عوالم سياحيّة، مختلفةٌ جدَّاً، مذهلةٌ جدَّاً، متكاملةٌ جدّاً في بلد واحد: 1) هضبة حضرموت الساحرة ومُدُنُ ألف ليلة وليلة المتناثرة في سواحلها وصحاريها، 2) المناطق الشمالية والوسطى بجبالها الخلابة، معمارها الفريد، تُراثها العريق ومُدنها القديمة والمتنوعة: صنعاء، مأرب، إب، تعز... 3) الشريطُ الساحليُّ المدهش الهابط من تهامة في أسفل البحر الأحمر حتّى حضرموت، القابلُ للسباحة طوال كلِّ ساعات العام، المؤهلُّ بشكل نموذجيٍّ للسياحة الشتويَّة المثلى، والذي تتناثر قربُهُ مُدنٌ ميثولوجية شهيرة متنوعة كعدَن، زَبيد، المخا... ناهيك عن أرخبيل جُزُر يمنيّة متناثرة بديعة خلابة نادرة، تقعُ في مقدِّمتها: سوقطرة!... كلُّ ذلك في بلد واحد لا غير! بلد لا يقترب منه سائحٌ واحدٌ تقريباً لأن وضعَهُ السياسي والاقتصادي والأمني يثير نفور العالم!

كلُّ هذا الكلام معروفٌ ومكرَّرٌ منذ 1990، دون فائدة! نُهبَتْ أو أُهملَتْ خلال هذه الـ 15 سنة كلُّ ثروات اليمن! التهمها التخلف والجوع والفشل، ليكون موقعُها اليوم في أسفل السافلين في قائمة التنمية البشرية، رغم كلِّ ملكاتها وثرواتها: معجزةٌ حقيقيةٌ لا يستطيع صنعها إلا مهندسو خرابٍ عباقرة نادرون!

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى