قصة قصيرة بعنوان (بين ملهاة ومأساة)

> «الأيام» محمود المداوي:

> يبدو أن أغلب أهالي ساكن «الجول» قد اقتنع تماماً بأن الجنية الملعونة قد سكنت بداخل جسم «الوليدة حفيظة».. أكد لهم هذا الأمر أكثر من مرة عراف الساكن الشيخ «جرادة البركة».. رأوه كثيراً رؤية العين المجردة كيف أنه يهوي على جسمها الغض الناعم بعصاه الغليظة التي لا تفارقه وكثيراً ما شاهدوا ما تركت هذه العصى العمياء على بدنها الرطب من ندوب وعلامات صارت بتراكم الأيام بقعاً وخطوطاً سوداء هنا ومخضّرة داكنة هناك تدل على مدى الظلم والقهر الواقع على «حفيظة» وهي مسكينة مستسلمة ولا حول لها ولا قوة.

عندما يسمع الأولاد والبنات حكاية الوليدة حفيظة من أفواه آبائهم وأجدادهم وجداتهم فإنهم لا يبالون بها، بل أنه يغلبهم خدر النعاس أولى خطوات الرقاد حتى تذبل حواسهم وتنام، فتراهم وكأنهم قد داعبوا خيالاتهم البريئة بإحدى حكايات ألف ليلة وليلة، إلا أنهم حين يبزغ ضوء شمس يوم جديد في سماوات حياتهم تلمحهم ساعين بإقدامهم إلى الالتقاء بها حتى يتسنى لهم هذا، فيطلبون منها بكل براءة أن تبين لهم جروحها وقروحها المزروعة في مواطن مبعثرة من جسدها الذي جاء عليه الهزال.

وبعناد مقصود أحياناً وغير مقصود أحياناً أخرى، وبعد تردد منها وإلحاح لشقاوتهم ترضخ «حفيظة» لمطالبهم، تتعرى لهم بكل عفوية وطيب خاطر تعرياً موضعياً تكشف عن مواطن وجعها وعذاباتها وهي تبرطم وتغمغم بكلمات لا يفقهون منها شيئاً، إلا أنهم رغم قساوة المشهد يتفاعلون مع تلك الكلمات الغامضة ومع حركاتها البهلوانية البلهاء، وتنتزع من أعماقهم ضحكاتهم الصبيانية التي يجلجلون بها المكان.

وفي لحظات من صفائها وانسجام مزاجها مع مزاج الأطفال إذ أنها غالباً ما تقوم بمحاكاة حركات وتصرفات الشيخ جراد البركة، ببراعة وإتقان فريد لا يخلو من العفوية الشديدة، وسط صخب وتهليل الصبية أولاداً وبناتاً، أما كبار السن فهم لا يملكون إلا إبداء مشاعر الاستهجان الممزوجة بالأسى والمرارة لهذا المشهد وهم يرونه مصادفة في طريقهم، يحاولون عبثاً إبعاد الصبية الذين تمادوا في مضايقة وملاحقة «حفيظة» من بقعة إلى ركن وزاوية، أو تحت فيء شجرة وارفة أو عارية، ولا سيما الأشقياء منهم، وهم يصوبون عليها طوبهم وحجارتهم وضجيج عصيهم التي يقرعون بها علب الصفيح الفارغة، وهم يهتفون من خلفها بأهزوجة ابتدعها خيالهم من وحي المشهد المعاش فتسمعهم يرددون بصوت صاخب:

حفيظة المجنونة يا عويلة

في رأسها حنونة يا عويلة

حفيظة الشعنونة يا عويلة

والله مجنونة يا عويلة

لم تكن «حفيظة» تبدي أدنى غضب، تكتفي برسم ابتسامة تائهة تعرش على شفتيها أحياناً، وأحياناً تمارس معهم غناء الاهزوجة وكثيراً ما تجاريهم في ألعابهم وحركاتهم رغم فارق السن بينها وبينهم.

ويرونها تفاجئهم في بعض الحالات عندما تنفرد لساعات وهي تلعب معهم لعبة ألفوها منها، إذ أنها كانت لما ترى نفراً من كهول الساكن تسرع للتقدم نحوهم وهي تؤدي حركاتها المعهودة فتلهب حماستهم وتثير ضحكهم، وفجأة وعلى حين غرة يرونها تستل مدية متوسطة الحجم تخرجها من فتحة ثوبها الشفاف ما بين قبتي نهديها الضامرين وأسفل جيدها. تتعمد أن تجعلهم يرون هذه المدية وهي تتلالأ ببريقها ولمعانها تحت ضوء شمس نهارهم الساطعة، تمعن في تعمدها لغرض كما يبدو في نفسها وهي تشوح بها ذات اليمين وذات اليسار، لتنتقل إلى حركة أخرى حيث يراها الجميع وهي تداعب بالسكين من يقع عليه اختيارها من أولئك الكهول من ذوي اللحى الكثة والطويلة الملتفين حولها.

لا يدرك الجميع هنا بالذات أن «الوليدة حفيظة» تعي ما تفعله قدر وعيها لمأساتها جيداً وأنها تعني كل ذلك.

أرادت وتريد «الوليدة حفيظة» بهذه الحركات أن تثير في أفئدة من يراها من هؤلاء القوم مشاعر الخوف والفزع، وتنجح في ذلك لما ترى ردة أفعالهم الحانقة الغاضبة إن لم تكن لعناتهم والتي لا تنتهي إلا بابتعادها عنهم، بعد أن تكون قد أسلمت روحها لحالة عميقة من الضحك الأبله المتوالي فيما يشبه ملهاة رقصة الطائر المذبوح من الألم.

قصاصة من رواية تحت الطبع للكاتب بعنوان: «ذلك النهار».

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى