تعريب العلوم هوية وحضارة

> «الأيام» أ. د. هادي نهر:

> من آيات الله اللغة العربية، لغة الوحي وبيانه، انتصر بالكلمة الدالة المعجزة المؤثرة، المقنعة على أمّة كان أسمى ما لديها البيان، فهو سلطتها التي تحكمت به على السمع والوعي.

وبهذه اللغة العربية مارس الإنسان العربي المسلم صنع الإنسان، وصنع حضارة الإنسان، ومنح المسلمون معارفهم باللغة العربية، واستطاعوا حمل حضارة من أضخم ما عرفت الإنسانية من حضارات، وكان للعربية قدرة على تمثل القضايا والأفكار التي احتكت بها بعد أن تمت الفتوحات الإسلامية المجيدة، ولقد كان الاحتكاك مع تيارات متباينة، بل منها ما كان معارضاً- بطبعه - لأصحاب الفكر العربي عن الموقف الفلسفي، والعقدي، والعلمي، واستطاع أصحاب اللغة العربية تمثل الكثير من ذلك الفكر وزادوا عليه جديداً من إبداعهم، وابتكارهم، وما كان أن تتم هذه المزاوجة المدهشة إلا بفضل الدقة التي عليها العربية. وإذا كانت الامبراطوريات السياسية والبشرية قد تشظت وتحللت فإن الامبراطوريات الآتية (في عالم العولمة) أمبراطوريات لغوية، ثقافية، علمية، وإعلامية ماحقة. وستظل (اللغة الأم) لكل شعب، ولكل أمة هي الاداة المعرفية الحاسمة، وهي العنصر الفاعل في موازين القوى، والتكتلات السياسية، والاقتصادية، والثقافية، فاللغة أفق مفتوح، فهي الهوية، والإرث، والتاريخ، والثقافة، والمستقبل بل هي الإنسان نفسه، ولا يمكن أن تمتلك وجودها ، وحركتها وإلزاميتها إلا بانتصار الجميع لها أفراداً ومؤسسات رسمية وغير رسمية، وعلى رأس ذلك كله الجامعات والمعاهد والمدارس، فاللغة بأهلها وليس بنفسها. فباللغة يكون كل منا دكتاتوراً على الآخرين يمارس سلطة التحكم بوعي الآخرين، ويحوّل دائماً الآخرين لسلطة وعيه. كل منا أفراداً وجماعات وشعوباً وأمماً باللغة سيد ومسود. وإذا كانت الأمة الجرمانية قد اجتمعت على شعرائها من أمثال (جوته) و(شيلس) قبل أن تجتمع على (بسمارك) و(مولتكي)، وأن الفرق بين ألمانيا وفرنسا يقوم على أن الألمان يفكرون على نمط (هيجل) وأن الفرنسيين يفكرون على نمط (ديكارت)، أقول إذا كان الأعاجم يفكرون ويؤمنون بذلك فأين نحن العرب اليوم من لغة حملت البيان الرباني الأخير للبشرية، واستطاعت أن تلم معاني القرآن وإعجازة على كل المستويات العلمية والشرعية والبيانية، وأن تؤثر في نفوس ملايين البشر ممن يتوجهون بها جميعهم إلى الله سبحانه في صلواتهم؟

إنه لمن المؤسف حقاً أن نرى أنفسنا ونحن نعيش غزواً ثقافياً، وفكرياً، وتحدياً حضارياً هائلاً لغتنا العربية محور نقاش عقيم بين أطراف (مغرّبة) منها المرتاب ومنها المشكك، ومنها الجائر الظالم، وكل هؤلاء يدعي سفهاً ومن غير علم أن اللغة العربية لغة بيان ودين وليست لغة علم وتقنية. وتغيب عن أذهان هؤلاء المغربين أنه لا يجوز الفصل بين الفكر الإنساني في تصوراته الذهنية سواء على مستوى الثقافة أو على مستوى العلوم التقنية إذا أن الفكر بهذا الاتجاه واحد، لأن لغته واحدة، هي التي تنقل البسيط إلى المركب وعلى العكس، وهي التي تبرز الأدب والعلم والمعارف، ومن هنا حرصت كل الأمم منذ القديم على أن تنقل إلى لغتها الأم كل المعارف التي تصدرفي لغات الأمم الأخرى، وهكذا كان تعريب العلوم والثقافة عند العرب حركة جماعية منظمة منذ العصر العباسي حيث المأمون (170هـ - 218هـ) بنقل علوم اليونانيين والسريان والهنود والفرس إلى العربية، مكملاً الطريق الذي بدأه الخليفة مروان بن الحكم ( 64-65هـ) الذي نُقل في زمانة أول كتاب طبي إلى العربية، أمر بنشره بعد ذلك الخليفة عمر بن عبد العزيز ]، وحيث (بيت الحكمة) أيام الرشيد وهو من أكبر المؤسسات التي عرفها التاريخ القديم للتعريب والترجمة.

وإلى جانب هذا استطاع العلماء العرب أن يرفدوا مسيرة الإنسان الحضارية بلغتهم العربية بعد أن تمثلوا القضايا والأفكار العلمية المطروحة آنذاك وزادوا عليها، بما ساعد على أن تصبح العربية ذات قيمة علمية بالنسبة إلى اللغات الأخرى، وبدا تأثيرها الشاخص إلى يومنا هذا في اللغات الإسبانية، والبرتغالية، والإيطالية، والإنجليزية وغيرها من لغات العالم الحية منذ القرون الوسطى.

إن من الافتراء الظالم أن يروج خصوم العربية في الاوساط العلمية عجز هذه اللغة عن أن تكون لغة علم وتقنية مثلما كانت سابقاً. إن المسألة ليست كامنة في اللغة العربية بما هي لغة، وإنما العجز في أهل هذه اللغة الذين لم يعودوا يملكون مشروعاً حضارياً وعلمياً في عالم يعيش ثورة جامحة من العلوم.

إن تناخي الغيارى من أساتذة جامعة عدن ابتداءً من الأخ رئيس الجامعة إلى آخر أستاذ في هذه الجامعة العتيدة على انبثاق(جمعية لتعريب العلوم) مقرها جامعة عدن يشكل استعادة للهوية وللانتماء والفعل الحضاري، وستكون هذه الجمعية نواة لتأسيس مجمع علمي يماني نحن في يمن الحكمة والخير أولى به، فلنا من التاريخ التليد والإرث الحضاري الشاخص، ولنا من رجال اليوم من علماء اليمن ومفكريها وقادتها ما يدعو إلى الانتصار على كل معارضي التعريب، والترجمة، من أنصاف المتعلمين. إنني أشد على أيادي الكوكبة التي تعمل بصمت من أجل أن ترى جمعية تعريب العلوم في جامعة عدن النور، الذي على هدية ستكون لنا خطط طموحة وقاعدة متينة يؤسس عليها المجمع العلمي اليمني، إن شاء الله تعالى.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى