أمي و (الوهط) ومحمد صالح حمدون..!

> «الأيام» مختار مقطري:

> صوت رخيم عذب.. نبراته كأنها خفقات فراشات أغرتها خدود الورد وهي ظمأى لترشف عطرها.. ترجيعه دعاء كروان حائر ينتزعه من صبواته الابتهال للصانع المبدع حمداً وثناءً، غناء بلبل يحاذر الامتثال لهوى لم يجربه من قبل فيرسل تغريده همسات خجولة، وفي صوته أسرار الهوى الأول والعشق البكر وتمتمات الرغبة البيضاء في شفاه المحبين.

وبهذا الصوت البريء.. حمل على شجن من رقائق تبر نقي شفاف وعلى لهفة من الألفة النابضة في وجنتي صبح وضاء، كل تلك المعاني والصور الخلابة للعشق والصبوات والافتتان الوثاب، بما فيها من معان وصور صريحة للذة اللقاء ونشوة الاختلاء، الا أنه لم يخدش حياء ولم يدنس طهر الفن الراقي المهذب للنفوس بنبرة إغراء ماجن أو جرس تلميح إلى نزق عابث.

بهذا الصوت المتبرعم في السنا المدثر بنسمة من نسائم الجنة.. أحب الناس بن حمدون وأحبوا أغانيه، ومازالوا يحبونها.. ولربما نسوها لو لم يقيد لها الله صوته.. ورغم صفاء الالحان ورونقها المتجدد ورغم جمال المعاني وعذوبة الكلمات.. إلا أن صوته هو الذي منح لأغانيه الخلود، وإلى ذلك فطن فارس عبقري اسمه عبدالله هادي سبيت فاختاره لها أو اختارها له.. !

وقد كان شرف إجراء آخر حوار صحفي مع الفنان محمد صالح حمدون، وفي الحوار سألته هل كان يفهم معاني القصائد التي غناها في طفولته، فأجاب بمنتهى صدق الفنان بأنه لم يكن يفهم معانيها.. فمن أين يأتي الصدق في ادائه؟! ومن أين تأتي تلك الحيوية التلقائية الخالية من التكلف فتبعث في نفس المتلقي حالة نادرة من التطريب تنعش الروح بخمرة معتقة كأنها كما غنت أم كلثوم لطاهر ابو فاشا:(ثمالة من دموع الشجو الوانُ.. ابريقها راح يبكي وهو فرحانُ).

نعم.. من اين يأتي كل هذا الجمال في اداء الطفل الكبير موهبة في أدائه وفنه ومقدرته العفوية على دخول عالم المقامات الموسيقية بثقة واقتدار- ولا يدخلها اليوم الا القليل- كأن له خبرة الكبار ووثوق المخضرمين فلا يملك من يسمعه - أمس واليوم وغداً - الا أن يهمس مسلماً بقدرة من جعل النغم آية لنبيه الكريم داؤود $: «سبحانه الله؟!».انه يأتي دون شك من الإحساس المتذوق للنغم والانغماس فيه لينسج مواءمة بديعة بينه وبين صوته الرخيم.. ليغدو الصوت هو اللحن واللحن هو الصوت، وليغدو الاثنان معا اغنية جميلة تخفق لها القلوب. إنه يأتي من النطق السليم للحروف واستطعامها ليضيف لحلاوة لهجة لحج العذبة اللوز والقرنفل والزبيب، ثم يأتي من بيئة (الوهط).. هذه البلدة الوادعة غرب (صبر) في الطريق إلى حوطة لحج المحروسة ليحمل صوت بن حمدون هدوءها المفكر ونسائمها العطرة، وهديل الحمائم وهي تستروح في بساتينها وتشرب مما يفيض من (عبرها) ومساقيها.. إنها (الوهط) التي حملها بن حمدون بصوته مكسوة برقة مشاعر أهلها الطيبين ولطافة نفوسهم وتأدبهم في الحديث إن شكروا أو عتبوا، هي الوهط في صوت بن حمدون وأصالته من أصالة أهلها خلائق و علماً موروثاً وألفة عامرة في القلوب ومحبة يغدقها الجميع للفرد و الفرد للجميع.

وكانت أمي يرحمها الله (1927-2004م) امرأة من (حريم أول)، وما أعظم وأجمل وأسمى (حريم أول).. ومثل غالبيتهن كانت أمي بارعة في تدبير شؤون منزلها وتوفير احتياجات أبنائها رغم أميتها في القراءة والكتابة، وكانت تحفظ ما تيسر لها من القرآن الكريم، وتهتم بالاستماع لنشرة الاخبار اذا زلزلت الأرض في الصين او في مدغشقر لتترحم على أرواح الضحايا وتدعو بالشفاء للمصابين والمأوى للمشردين، ولا تهتم لسماع الاغاني، كانت أمي - يرحمها الله- لا تسمع سوى القرآن الكريم و نشرة الأخبار ومحمد صالح حمدون، أي والله! وكثيرا ما أدهشتني هذه العلاقة الحميمية بين أمي وبين صوت بن حمدون، فإذا صدح صوته من الراديو طلبت منا أن نكف عن الكلام وإذا سمعت صوته يتموج اليها من غرفتي أمرتني أن انقل إليها (الريكوردر) لتستمع لمحمد صالح حمدون، والغريب أن أبي- يرحمه الله- تزوج على أمي وكانت زوجته الأخيرة - يرحمها الله- امرأة وهطية طيبة ووفية وصبورة، وكان ذلك حريا بأمي أن تكره الوهط ونساء الوهط ورجالها.. لكن بن حمدون غسل قلبها من الكره بصوته الجميل.. وما زلت عاجزاً عن تفسير حبها لصوته الغريد، فلعل صوته كان يذكرها بشغبي في طفولتي وطموحاتي المغرورة في مراهقتي.. وعاجزاً عن تفسير تلك العلاقة الحميمية الدافئة بينها وبين صوت بن حمدون.. أمي التي لم تكن تستمع لأم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وأحمد قاسم والمرشدي وغيرهم، كان صوت بن حمدون وحده فقط الذي يجبرها على سماع الأغاني.

وفي ذلك اللقاء الذي اجريت فيه الحوار الصحفي مع بن حمدون حدثته بأمر أمي وتأثير صوته عليها.. فلم يستطع إخفاء فرحته بالخبر وهو الغني بحب الآلاف من عشاقه ومحبيه، وحملني أمانة أن أنقل اليها تحياته وسلامه ومشاعره الجميلة لأم رؤوم.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى