درب التوابل مرّ في عدن

> فاروق لقمان:

> لا أحد يعرف على وجه التحديد بداية استخدام التوابل -أي الحوائج كما نطلق عليها خطأ في اليمن- لكن المعروف أن عدن التي كانت أحد أشهر موانئ تجارة الترانزيت في العالم القديم، منذ أربعة ألف عام، والحديث حتى 1967م، كانت محطة هامة ومستودعاً هائلاً لها ولسواها من السلع.

لذلك أسهمت في انتشار هذه النباتات الممتعة في كافة أنحاء العالم - من الفلفل الأسود إلى عناصر الكاري الهندي والقرنفل والهيل والكمون والقرفة التي كانت يوماً ما تباع بالأوقية أو الجرام في أوروبا.

كذلك كانت عدن محطة حيوية لتجارة اللبان والبخور الذي اشتهرت به اليمن كافة خصوصاً من حضرموت إلى حدود المهرة وفي عمان - أجزاء منها كانت ضمن الدولة اليمنية- وطبعاً في الصومال التي كانت تصدره عن طريق عدن. وقال الكاتب البريطاني بيتر بوكسهول الذي عمل في الجنوب ثم في سلطنة عمان مديراً للآثار حتى السبعينات في حديث أجريته معه أن الجنوب اليمني كان يوماً ما يصدر ما حمولته عشرة ألف جمل سنوياً من اللبان وحده لمواجهة الطلبات العالمية مند عهد الفراعنة الذين استخدموه في الطقوس الدينية وصناعة العطور.

إلا أن حديثي اليوم ليس عن لبان البخور أو لبان ذكر كما نسميه لتمييزه عن اللبان الذي نلوكه مثل الشوينجم وكنا نحن رواد هذه العلكة التي تلقفتها الشعوب الأخرى وجعلتها هواية شعبية واسعة الرواج وصناعة متشعبة دخلت حتى في علاج أمراض الفم.

حديث اليوم مستلهم من كتاب وصلني منذ أيام بعنوان «درب التوابل» أو البهارات- وهو الاسم القديم للهند- أي تاريخ تلك النباتات العجيبة التي غيرت مذاق الطعام مائة وثمانين درجة وجعلت له طعماً لم يعد الإنسان الشرقي خاصة- وأهل اليمن معهم- ثم الغربيون يقدرون على الاستغناء عنه. هل تتصور حلبة بدون توابل وهل يمكن الاستمتاع بأطباق بدون فلفل وحمر أو بسباس - كلمة عربية فصيحة بالفتحة على الباء- ويقول العلماء إنه ولد في بلاد المكسيك ثم نقله الاستعماريون البرتغال إلى الشرق، وهل يمكن أن تكون هناك وصفة أو طبخة شرقية من أقاصي المحيط الهادي وعبر الهند إلى أطراف اليمن وعمان بدون التوابل التي اكتسحت أوروبا حتى أن وزير خارجية بريطانيا الراحل روبن كوك أعلن ذات يوم بفخر واعتزاز أن الوجبة الرئيسية المحببة لشعبه هي الدجاج المشوي بنكهة الكاري أو مسالاً وتعني بالهندية الإدام أو عندنا «الخصار».

يقول مؤلف الكتاب الأستاذ جون كي الذي قضى عدة سنوات يبحث في تاريخ الهند حتى استقلالها عن بريطانيا إن العالم لم يشهد شغفاً ببضاعة ما كما فعل بالنسبة للتوابل حتى أن الحرير وبعده الشاي بمئات السنين لم يعهد هوساً مثل ذلك الذي أصاب اليونانيين القدامى والهنود والعرب والصينيين والملايو والأفارقة والبرتغاليين والأسبان والبريطانيين والهولنديين وقد اكتشف وثائق تشير إلى أن صادرات الهند من التوابل كانت تصل إلى العراق أيام الحضارة السومرية والخليج العربي سيما سلطنة عمان والمهرة منذ آلاف السنين. أيضاً الفراعنة انضموا إلى جنون التوابل بحثاً عن الكمون والهيل أو الحبهان والقرنفل وبقية النباتات التي فتنت الدنيا منذ اكتشافها حتى أن المؤرخ اليوناني الأول هيرودوتس أوسع لها موقعاً في كتاباته وكأنها إحدى عجائب الدنيا بعد السبع المعروفة. وأعتقد شخصياً أنها ألذ وأمتع لأن العجائب ومنها الأهرام تراها مرة وتواصل السير لكن عشق التوابل يظل معك العمركله. وبعد غزو الإسكندر المقدوني للهند عن طريق أفغانستان وآسيا الوسطى اندفع اليونانيون جرياً وراء البهارات التي كانت كالنفط العربي حالياً أو الذهب 22 قيراط بالنسبة للهنود أكبر مستهلكي المعدن الأصفر. فهم يستوردون ويعيدون تصنيع ثمانمائة وخمسين ألف كيلو سنوياً لأن من المستحيل أن تزف عروس بدون عقد يلف عنقها وقرط لأذنيها وشوالية تزين يديها وحلقة لأنفها أو ملطومة كما نسميها.

التلهف اليوناني لفت نظر واهتمام رحالة في القرن الأول للميلاد كان يجوب البحر الأحمر وأسواقه ثم اتجه إلى مصدر التوابل في ملبار في ولاية كيرالا الهندية حالياً لسهولة العبور إليها من عدن خلال موسم الرياح المتجهة جنوب شرق إلى شبه القارة. ثم ألف كتابه المعروف بعنوان «التجوال حول البحر الإريتري» وهو الذي يواجه باب المندب وعدن السوق الدولية الشهيرة. وأصبحت ملبار مقصداً للتجار والمهاجرين من اليمن سيما المطلين على البحر الأحمر وبحر العرب. وشرع اليمنيون في الاستيطان والتزاوج مع الأهالي والانتقال بين ملبار وسواحل اليمن حاملين عند العودة الأخشاب الثمينة- الساج- والجواهر والعود والأقمشة من قبل الإسلام والملكة بلقيس التي حملته معها إلى نبي الله الملك سليمان. لكن في بداية القرن العشرين انعكست الآية، فلما تدفق النفط في دول الخليج احتاجت لأيد عاملة زهيدة التكاليف بمئات الآلاف من كيرالا حتى وصل عددهم حالياً إلى ثلاثة ملايين ونصف المليون يحولون حوالي 15 مليار دولار سنوياً تزداد بارتفاع أعدادهم.

وقد أعود إلى هذا الموضوع الشيق في مقال قادم إن شاء الله لأنه بدأ منذ آلاف السنين بالفلفل والهيل والقرنفل ويواصل مسيرته بملايين المقيمين والمغتربين الملباريين في دول الخليج وقيل إن بعضهم قد استقدم إلى صنعاء فهم يصدرون المهارات ونحن ندفع بالمليارات.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى