«الأيام» تزور معقل الملوك الطاهريين بالضالع وتجد:مساجد ومآذن ومدارس ومقابر وأبراجاً تاريخية لم تغير يد البلى إلا القليل منها

> شائف الحدي

>
جسر عامر بن عبدالوهاب
جسر عامر بن عبدالوهاب
خاتم نبى الله سليمان صلى الله عليه وسلم منحوتاً في مسجد ومدرسة المنصورية بجبن..ست ساعات زمنية غير كافية لاستقراء عجلة التاريخ لمدينة جبن بمحافظة الضالع والتعرف على هويتها التاريخية التي تضرب بجذورها في أعماق التاريخ.. يوم أو أسبوع أو شهر واحد لا يكفي لاقتفاء الأثر التاريخي لهذه المدينة الفاضلة من تلك الشواهد الحية والأطلال المندثرة التي بقيت متحدية تقاوم مساوئ الطبيعة والنسيان على مدى العصور والأزمان، والتي لم تغير يد البلى إلا القليل منها.. إنها ليست أطلالاً متناثرة تذروها الرياح ونتغنى بصنّاعها، ولكنها سجل تاريخي مفتوح لمن يدفعه فضوله أو موهبته ليبحر في صفحات تاريخها الثري بنفائس كنوز الدويلات اليمنية القديمة امتداداً الى عصور الإسلام المتعاقبة، والتي لم تكن هامشاً من الهوامش بل كانت فصلاً من الفصول التاريخية التي تميزت بها هذه المدينة بغابرها التليد.

ورغم ما عانته هذه المدينة من نزاعات وحروب عصيبة أيام ما كان يعرف بصراع الدويلات الإسلامية باليمن،إلا أن آثارها بقيت متحدية رغم ما حدث وظلت شاهدة على حضارتها التي لا تزال الكثير من شواهدها التاريخية صامدة الى يومنا هذا على غرار ما تكتنز في باطنها من أسرار.

«الأيام» ارتأت إن تحط الرحال هذه المرة في مدينة المماليك الطاهريين الذين فاقت شهرتهم الخيال لتدون من هناك لقرائها استطلاعاً بالنص والصورة عن أغوار التاريخ لهذه المدينة العامرة بالمآثر والقصص الخالدة.

الى أرض المماليك
وتمضي بنا السيارة على عجلة من أمرنا صوب مدينة جبن- بضم الجيم وفتح الباء - أرض المماليك الطاهريين وتيجان مدنهم الزاخرة بالمعالم الإسلامية، التي بني هؤلاء الصماصيم من الملوك الطاهريين صروح أنماط حضارتهم الإسلامية المجيدة عليها والتي صمدت معالمها في وجه أحداث الدهر صمود الجبال الرواسي من حولها.

كم شدني الشوق وأنا أقطع السير إليها بالسيارة من مدينة دمت السياحية، وكم تأثرت بتلك المناظر النضرة التي كانت تسمو الى الوجدان فتنقل قصة جميلة عن أرض كانت ومازالت ملهم بني البشر منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها .. وأثناء رحلتنا هذه التي حددنا أهدافها كان الغموض يكتنف كل ما حولنا بمرور السيارة بين هبوط وصعود وبيئة متنوعة، فمن خضرة زاهية الى صخور قاسية نرى فيها رجالا يمشون الى قراهم المرتفعة بثبات ورسوخ وكأن صلابة البيئة من حولهم قد سرت الى أرواحهم أو انسابت في أوصالهم فمنحتهم أقداماً لا تتراجع في مقصدها وأكسبتهم جدية في تسلق الجبال والصخور.

ويا عجباً لأصحاب هؤلاء القرى كيف أبدعوا وبنوا مساكنهم في تلك الجبال، وكيف استطاعوا تحويل عناصر البيئة من حولهم لخدمة أهدافهم؟! ومنذ أن انطلقنا من مدينة دمت القديمة التي تقع شرقي مدينة دمت الجديدة بأربعة كيلومترات الى أن وصلنا الى مدينة جبن كانت تلوح أمام ناظرينا وعلى جانبي الطريق قرى وجبال ووديان متناثرة نذكرها على سبيل المعرفة: الحبيشية، الظاهرة، الرياشية، جبال الميتمة، حقل الفارد، جبل القران، عزلة غراس، جبل المقرانة، مدينة المقرانة التاريخية «عاصمة الدولة الطاهرية» بلاد محروم حجاج، وقرى دار الحاج، قرية خولة، قرية النميحة، وادي حميشان، قرية مسيكة وبها يوجد مفرق (جبن - دمت - رداع الإسفلتي) ومفرق رداع يقع على أيسر الطريق المؤدي الى مدينة جبن، وبعد أن تجاوزنا هذه المناطق بدأت بنا عجلات السيارة بالارتفاع التدريجي عن سطح الأرض ثم تعاود النزول بنا عبر نقيل يسمى (الفضيع) كثير المنحنيات والهاويات وما إن تصل الى أسفل النقيل حتى تطل على فسحة مستوية من بلاد يهر التي تقع في المدخل الشمالي لمدينة جبن، وما هي إلا بضع دقائق حتى كانت السيارة في وسط عامرية جبن، قلب المدينة النابض بالحياة.

لمحة جغرافية
تقع مدينة جبن على مساحة كبيرة تتخللها الأودية والجبال والسهول، فمن ناحية الشرق يحدها محافظة البيضاء ومديرية يافع من محافظة لحج، وغربياً مديرية دمت من محافظة الضالع ومن جهة الشمال مديرية رداع من محافظة البيضاء وجنوباً سائلة دلتا وادي بنا ومديرية الشعيب وسلسلة جبال حرير من مديرية الحصين بمحافظة الضالع.

الدولة الطاهرية (850هـ - 1446م)
أسس قواعد هذه الدولة الأخوان علي بن طاهر وعامر بن طاهر سنة (850هـ - 1446م) في مدينة المقرانة بمديرية جبن محافظة الضالع قبل حوالي سبعمائة عام، ومما يذكره التاريخ أن المؤرخين قد أطنبوا كثيراً في وصف هذه الدولة وملوكها، ومن أشهرهم الملك الظاهر صلاح الدين عامر بن عبدالوهاب الطاهري، التي شهدت اليمن في عهده قفزة نوعية في شتى المجالات وكذا تنظيم الجيوش، وهو الملك الذي استطاع بدهائه وفراسته وحكمته أن يبسط نفوذ سلطته على مدن ومناطق اليمن من حضرموت شرقاً الى زبيد غرباً، وتمكن هذا الملك من فرض دولة مركزية وحدت مناطق الأرض اليمنية إلا النزر اليسير الذي ظل في أيدي دولة الأئمة الزيدية في صعدة.

وكانت مدينة صنعاء حاضرة اليمن هي المدينة العصية التي لم تسقط سريعاً في أيدي الطاهريين حيث واجه الملك الطاهري عامر بن عبدالوهاب - كما يذكر المؤرخون- صعوبة كبيرة في الاستيلاء عليها ولم يتمكن من ضمها الى دولته إلا في عام (859هـ - 1455م).

وكانت الدولة الطاهرية قد واجهت حروبا خارجية كثيرة كانت أبرزها مع المماليك المصريين والغزاة البرتغاليين، الذين فشلوا في السيطرة على مدن السواحل اليمنية، ويذكر المؤرخ قطب الدين النهروالي في كتابه (البرق اليماني) أن ثمة معركة قد دارت رحاها في مدينة زبيد بين المماليك المصريين الذين كانت تساندهم بقايا الأئمة الزيديين وجيوش الملك عامر بن عبدالوهاب، ويذكر راوي هذه الأحداث أن مدينة زبيد سقطت بأيدي المماليك وحين انتشى المماليك بهذا الانتصار زحفت جيوشهم نحو مدينة عدن للاستيلاء عليها ودارت معركة كبيرة انتصرت فيها جيوش الملك عامر بن عبدالوهاب. ومع ازدياد أطماع المماليك وهجماتهم المتكررة سقطت مدينة تعز ومدينة المقرانة معقل الملوك الطاهريين بأيدي المماليك المصريين، وفي عام 1517م دارت معركة ضارية على مشارف أسوار مدينة صنعاء بين جيوش المماليك وجيوش الملك عامر بن عبدالوهاب وأخيه عبدالملك، تكبد فيها الجيشان خسائر فادحة في الأرواح وسقط فيها الملك عامر بن عبدالوهاب شهيداً. وبسقوط مدينة صنعاء بأيدي المماليك عام 924هـ - 1517م انكسرت جيوش الدولة الطاهرية وتفرقت كما يذكر المؤرخ النهروالي في كتابه (البرق اليماني).

وعلى الرغم مما تعرضت له مدينة المقرانة عاصمة الدولة الطاهرية من دمار أثناء هذه الحروب إلا أن هذه المدينة احتفظت بالكثير من معالمها، حيث لا يزال سورها قائما ومعالم أخرى أضحت أطلالاً (تناولته «الأيام» في استطلاع سابق عدد 3843 )ومع ذلك احتفظت مدينة جبن ببقايا هذه الدولة بحكم أن المقرانة تقع خارج مدينة جبن بمسافة غير بعيدة وتتبعها إدارياً.

معالم أخرى
ما يميز الدولة الطاهرية أن آثارها ومعالمها لم تكن محصورة على مدينة جبن فحسب، بل أنها امتدت الى ربوع اليمن حيث شيدت هذه الدولة الكثير من المساجد والمدارس والحصون والقلاع وأنظمة الري وغيرها من المعالم الأخرى التي تذكي الشوق للاطلاع عليها، وعلى سبيل المثال لا الحصر مدرسة العامرية برداع وكذا جسر الملك عامر بن عبدالوهاب بمديرية دمت الذي يربط دلتا وادي بنا بالآخر.

احتيار!!
يحتار الزائر عندما تطأ قدماه مدينة الملوك الطاهريين، من أين يبدأ والى أين يذهب؟! كما يحتار في المدة الزمنية التي يجب أن يقضيها بين أزقتها العتيقة ومدارسها ومساجدها ومعالمها الأخرى كالحصون والأبراج التي تحيط بالمدينة من عدة اتجاهات، فيوم أو أسبوع أو شهر غير كاف لاستقراء معالم المدينة، وليس بمستغرب أننا غادرنا المدينة ولم نستطع تحقيق مآربنا التي أتينا من أجلها وهي الغوص والتعمق في تاريخ هذه المدينة من أجل بثه وزرعه في وجدان الذين يبحثون عن صروح أمجادهم.

مساجد لها تاريخ
مساجد جبن لها تاريخ مجيد وفن بديع.. لكن الزائر لها يتفاجأ بما يتهدد طرازها الإسلامي من الاندثار والضياع، ويحاول الزائر الذي يقصد هذه المساجد أن يبحث عن هويتها التي يتوقع أن يجدها في فنون عمارتها وزخارفها الهندسية، ويتوقع أن تكون مخزناً لما بقي من حضارة الدولة الطاهرية، ولكنه يصاب بالأسى أمام الفجوة الكبيرة بين ما يتوقع وما يرى، فمسجد المنصورية مثلاً والجامع الكبير أضحيا في حالة يرثى لها ويظهر ذلك جلياً من خلال ما يرى الزائر عليهما.

إبداع
إن ما شاهدناه في مساجد جبن من إبداع في فنون الخطوط والرسم والزخرفة والنقش على الجدران والأسقف والمحاريب والقباب والمنابر يقودنا الى أن هؤلاء العباقرة من النحاتين وأصحاب الزخارف من صناع هذه الحضارة لم يكونوا يختزلون أسرار مهنتهم هذه حصرياً، بل كانوا ينثرون جل عطاياهم الإبداعية على أرض الواقع من خلال ما كانوا يبرزونه من فنون وزخرفة على الجدران غاية وروعة في الجمال لم يستطع في يومنا الفنانون والمزخرفون رغم تقدم العلم والزمان في الألفية الثالثة فك طلاسم إبداعات من سبقوهم في الألفيتين الأولى والثانية الذين استطاعوا قهر المستحيل ومواجهة الصعوبات والظروف الصعبة التي كانت تحيط بحياتهم المادية.

هندسة وفن
لم يكتف هؤلاء الفنانون ممن سبقونا بزخرفة المساجد والقباب والمحاريب بالآيات القرآنية، بل إن مهارتهم الزخرفية استمدت من موضوعات فنية من أشكال نباتية وهندسية، وكانوا يعتبرون الزخرفة والنقش من لوازم العمل الفني، ولم تقتصر أعمال الزخرفة على الحجر والزجاج بل إنها شملت الجص والحفر على الخشب والرسم على الجدران والقباب، ويظهر ذلك من خلال أشكال الأزهار والنباتات التي رسمت على الأسقف والجدران والقباب وهذه النباتات يعتقد أنها كانت تعيش في تلك البيئة التي عاشوا فيها، ويلاحظ جلياً أن كل من أضاف في عمارة هذه المساجد قد عمل على الحفاظ على ما سبقه فجاء ممثلاً لعصور مختلفة، على النقيض مما يحدث في الألفية الثالثة من تشويه للقديم .. ترى ذلك حينما تطوف في أروقة أي مسجد.

خاتم نبي الله سليمان صلى الله عليه وسلم
في الجهة القبلية لمسجد المنصورية من الخارج وعلى أيسر الصورة توجد نجمة مسدسة الشكل منحوتة بشكل هندسي رائع يطلق عليها أهالي المدنية بخاتم نبي الله سليمان $ ويعود وجود هذه النجمة المسدسة الشكل الى تاريخ بناء الجامع، وتدور القصص والروايات حولها ويقال والعهدة على الراوي أن الملوك الطاهريين كانوا يتفاءلون بها خيراًَ وأن تصميمها نقل من مدينة مأرب التي شهدت فيها استجابة ملكة اليمن بلقيس لدعوة نبي الله سليمان $ للإسلام.

مقبرة الملوك الطاهريين
تقع هذه المقبرة في مدخل مدينة جبن ويلتف عليها سور محكم وهي عبارة عن مبنى مربع الشكل تعلوه أربع قباب بنيت على شكل هندسي رائع ويوجد وسط المبنى من الداخل عمود ترتكز عليه عقود القباب الأربع، وينقسم المبنى الى قسمين القسم الشرقي ويقع عليه خمسة قبور بينما في القسم الغربي المقابل خمسة قبور، مع وجود قبرين صغيرين لطفلين في الجهة الجنوبية الشمالية، وقد كانت هذه القبور مغطاة بتوابيت خشبية (قفص خشبي) نزعت أغلبها، والتوابيت الموجودة مكونة من خشب معشق عليها زخارف كتابية قوامها من الأعلى (بسم الله الرحمن الرحيم) وآية الكرسي وأسفل منه أخشاب مترابطة بالتعشيق وأسفلها شريط زخرفي نباتي وشريط كتابي آخر قوامه العديد من الآيات القرآنية التي لا تتسع الأسطر لسردها، كما يوجد قبر للقاضي المشهور محمد المقربي عليه كتابة قوامها (بسم الله الرحمن الرحيم.. توفي القاضي صدر الحكام ومفتي الأنام المشهور محمد بن أبي بكر المقربي...سلخ من رمضان سنة خمسين وسبع مائة من الهجرة النبوية على صاحبها الصلاة.

وفي المبنى في الجهة الشمالية شكل محراب صغير له عقد مدبب يرمز الى القبلة وباب الضريح في الجهة الجنوبية، وأمامه الى الجنوب بركة ماء ويحيط بالمبنى من الخارج الذي تعلوه أربع قباب، قبور كثيرة وتقع في إطار السور يعتقد أنها للسلالة الملكية الطاهرية.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى