الصورة الشعرية عند الشاعر صالح بن علي الحامد

> «الأيام» صالح عقيل بن سالم:

> يرى الأستاذ عبدالله حسين البار أن صالح الحامد جلس في حدائق الشعر العربي، وطوف فيها متنقلاً بين مختلف الاتجاهات والصور حتى انبعث شاعراً رومانسياً يصدر في شعره عن مفاهيم أقرب ما تكون إلى مفاهيم الرومانسيين في الأحياء والأشياء، وطرائقهم في الرؤيا والتعبير.. ولكنه على ما في نفسه من ميل صادق لمفاهيم الرومانسيين وطرائقهم في الرؤيا والتعبير، انبعثت في شعره مظاهر تقليدية هي صدى لبواعث بعينها لم يستطع التخلص منها، فتركت آثارها في شعره. (د. مبارك الخليفة، صالح الحامد بين التقليد والتجديد، ص 10).

وإذا نظرنا إلى إحدى الزوايا الفنية (الصورة الشعرية) في شعر الحامد وجدناها أصدق برهان على ما ذكره الأستاذ البار، فالحامد كان ممن بدأوا التجديد في مجال الصورة الشعرية، وكان ممن زاوج بين عالمه الداخلي وعالم الواقع كما يرى د. عبدالمطلب جبر، إذ يقول في رسالة الدكتوراه (تطور الصورة الفنية في شعر اليمن الحديث، ص53): «لا بد من الإشارة إلى نقطة الافتراق بين صور التيارين الإحيائي المحافظ والمجدد وتمثل في تطور الموقف من الوجود الخارجي الذي ما عاد مشهداً ساكناً يكتفي الشاعر منه بالإدراك العقلي المباشر، ولكن في التزاوج بين العالم الداخلي للفنان والعالم الخارجي، وقد ظهرت البوادر الأولى لهذا الموقف عند كثير من شعراء التيار الإحيائي المجدد مثل صالح الحامد». يقول الحامد في قصيدة (الجنة الضائعة):

لله بين رباك أي أليف

عاشرته في مربع ومصيف

متنقلين مع البلابل في الربى

من طيب ازهار لينع قطوف

غان تدلل في صباه وعاش في

ظل من العيش الهني وريف

فأتى كما شاء النعيم مدللاً

مرحاً بغير اللهو غير شغوف

سقياً لأيامي بذياك الحمى

وعهود ركضي في الهوى ووجيفي

وتجولي والإلف في أنحائها

واللهو خدني والشباب حليفي

متطوفين كأننا طير الربى

نختال في سهل أغن وسيف

على الرغم أن صالح الحامد حاول أن يضفي كثيراً من الرقة والحداثة على صوره في هذه القصيدة، ولا سيما في قوله «متنقلين مع البلابل، غان تدلل في صباه، فأتى كما شاء النعيم مدللاً..» فإن ثقافته التراثية، وربما قرب موقفه من موقف الشاعر القديم جره إلى الاقتراب من الصورة التقليدية التي ظهرت ملامحها بوضوح في المقطع الثاني «سقياً لأيامي..» وبالتالي تشكلت عنده الصورة من الناحية الفنية، وكانت صدى للمقدمة الطللية التي كان الشاعر العربي القديم يفتتح بها بعض قصائده قبل الدخول في الغرض الأساسي في القصيدة، فالشاعر هنا يقف على المكان الذي خلا من الأليف ثم تبدأ لحظة الارتداد إلى الماضي مستعيداً صورة ذلك الأليف الذي يقطن ذلك المكان- تماماً كما يفعل الشاعر القديم - بيد أن الحامد كان مهتماً بصاحبة المكان أكثر من المكان نفسه، وإذا ذكر المكان فإنما يذكره بصورته التي كان عليها قبل رحيل صاحبته، كقوله:

متنقلين مع البلابل في الربى

من طيب أزهار لينع قطوف

ولهذا لا نجد عنده ذلك التهدم (الأطلال) الذي يحرص الشاعر القديم على إبرازه.

ويقول الحامد في قصيدة (من أصداء الحرب):

شاد على الأيك من بالشدو أغراه

أعاد لي ذكر عهد لست أنساه

أطار من بين أحنائي بنغمته

قلباً إذا ما دعاه الشوق لبّاه

أواه من ذكر قاسٍ في تدللـه

رمى بسهم الهوى قلبي فأصماه

أستودع الله ظبياً في مراتعه

لولاه ما ذقت نعمى الحب لولاه

زايلته وهو عندي ماثل أبداً

وغبت عنه وفي الأضلاع مثواه

متى اللقا؟ قلت: عن قرب فقال: متى؟

فقلت: لم أدر ما يقضي به الله

هنالك انحل سلك الصبر حيث هوى

در الدموع فراداه ومثناه

نلحظ أن صالح الحامد هناك (في الغربة) يستحضر الماضي الرغد الذي عاشه في بلاده معبراً عنه بالصورة الشعرية المحملة بالدلالات الإيحائية. ففي هذه القصيدة تأتي الصور الشعرية تكراراً لمعنى الصور في قصيدة (الجنة الضائعة) لتؤكد المعاناة والتجربة.

كما يلجأ في المقطع الثاني - لإبراز الماضي- إلى استلهام تجارب مشابهة لشعراء سابقين أبدعوا في التعبير عن ذواتهم ويختار هنا قصيدة ابن زريق البغدادي موظفاً (التناص) في قوله: (أستودع الله ظبياً في مراتعه...) فهذا التناص يحمل صورة ابن زريق البغدادي حين قال:

أستودع الله في بغداد لي قمراً

بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه

ودعته وبودي لو يودعني

صفو الحياة وأني لا أودعه

والحامد حيث استحضر هذه الصورة لا يجهل أبعادها وتداعياتها أو ما تثيره في المتلقي من مشاعر وأجواء، غير أنه كان معنياً بإبراز الجانب النفسي«لولاه ما ذقت.. وغبت عنه وفي الأضلاع مثواه» أكثر من إبرازه جانب المكان، أما ابن زريق فقد ألم بكل ذلك، إذ جاءت صورته زفرة مكلومة.

ولا يقف الحامد عند تلك الحدود، بل نراه يستحضر تجربة أخرى للشاعر السلولي، في قوله: «متى اللقا؟ قلت: عن قرب فقال متى؟..» فهذه الصورة الكلية المعبرة عن لحظة الفراق المر تكاد تكون تناصاً لصورة الشاعر السلولي حين قال:

فقالت وعيناها تفيضان عبرة

بأهلي بيّن لي متى أنت راجع

فقلت لها تا الله يدري مسافر

إذا أضمرته الأرض ما الله صانع

فشدت على فيها اللثام وأعرضت

وأمعن بالكحل السحيق المدامع

لقد ألمّ الحامد وحلق في سماء تلك التجارب الوجدانية المؤثرة، واستطاع أن يرابطها وينميها ويستسيغها في تجاربه الذاتية دون تشابك أو تفكك.

ويبدو أن الحامد في استخدامه للصورة الشعرية كان أكثر اهتماماً بتصوير حياة الماضي، فالفراق الذي لازمه طوال حياة الغربة هو الذي دعاه إلى الماضي والحنين إليه.. ولولا استحضاره لتجارب الشعراء التي تحمل معاناته لما استطاع أن يصبر نفسه، فقد كانت تلك التجارب عزاءً له في غربته.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى