في الذكرى الأولى لرحيله..عبدالله سالم باوزير..المعادلة الصعبة بين الكتابة والسلطة

> «الأيام» أديب قاسم:

> من ذا الذي يقدر أن يبوح بضعفه كاملاً، بل ويعلق على ظهره لافتة: «هش! .. تناولني بعناية».. ذلك لكثرة معاناته من جراء المرض وشدة فقره، وأيضاً لأنه كان يمتلك تلك الموهبة الحزينة (الأدب)، أو هي موهبة التعمق في الأشياء والبحث عن الذات.

في البدء عندما تعلق (عبدالله سالم باوزير) بالحياة، وقذف في جيوبها بأصابع يده الخمس، وهو الحضرمي - هكذا نتصور - الذي يعرف طريق القرش، وأخرج يده فإذا هي بيضاء من غير سوء إلا من ثلاث أصابع تحمل القلم! يهش به على أوراقه، وليس له فيه مآرب أخرى. فماذا صنع له/ أو به القلم؟

حاول أن يفتح به أبواب الليل.. ليواسينا ويبقي علينا، فانغلقت عليه الأبواب .. وظل بعدها يضحك حتى حافة القبر!

وجد نفسه بلا عمل كبواب العمارة، تحسبه مالكها وسيدها الأوحد.. لكنه في آخر مرة ظهر وهو يقف أمام تلك العمارة .. يتحدث مع شجرة!.. وجدها تملأ الأفق أمامه، ورأى جذعها يتحرك باتجاه المؤسسة أو العمارة التي تعمل فيها.. تبعها حتى الباب، ثم حدثنا: «.. فجأة وقفت أمامنا سيارة فارهة، فتح بابها وخرج منها فأر سمين له عينا لص وذيل أفعى، أشار لها أن تركب، فأبت، أمسك بها محاولاً اقتلاعها، تشبثت يدها اليمنى بنافذة المبنى، وأمسكت أنا بيدها الأخرى فظلت مسمرة على الأرض.

دار دورة كالكرة وارتقى سلم مبنى المؤسسة (أو العمارة).. وعلى الباب قال بواب المؤسسة لسائقه:

- ماذا يريد صاحبك هذا؟

قال السائق وهو ينظر إلى الفتاة:

- سوف يشتري المؤسسة بمن فيها».

كانت هذه واحدة من أقاصيصه التي كان يمد بها يده لمصافحتنا ومواساتنا و... ليبقي علينا.. (الشجرة) عنوانها وقد نشرت في عدد 4 أغسطس 2004م من صحيفة «الأيام» وكانت لديه عمارات كثيرة يقف بجنبها دون عمل له إلا أنه (صاحب قلم كبير)!. لا يجيد التسكع ويحدّق بعين نافذة.

كان ملتزماً للواقع الاجتماعي ربما يتعدى (قليلاً) حدود موظف الحكومة الذي لا يجلب الضرر لأحد.. ومع أنه خالي شغل - بلا وظيفة، فكان ممن يحتاط للقول كي لا يتورط في السياسة.. ودون أن يقترب من كاتب (عرض- حالات).. فلم يكن يهدف لعمل إحصائي يعدد فيه عيوب المجتمع، وإنما ينهض بعمله على نحو إجرائي (فني) أكمل، فيه دقة التعبير وحسن العرض وإشراقة المعنى، وبشيء من الجرأة، دون أن يفلت من عقال.. أو يغوص في إعجاز بلاغي يسلط فيه الضوء على الواقع.. والواقع وحده، وليس فيه ما يقال من أن الخيال والد البلاغة!.

وكان يشير لنا- كعلامات الطريق المضيئة - إلى بعض حقائق التعبير الاجتماعي، يلوّح لنا، شيئاً ما، بالأجوبة التي كنا نجدها عندما نضحك أو نغضب دون أن نكشف سرنا لأحد.

وأنت تستشعر في خطابه النقدي (أكان قصة، مقالة، خاطرة، أو ملحة أدبية) ما يُدعى بـ(عيوب النقد الاجتماعي) أو نقد الواقع الاجتماعي بالملمح العام للصورة محاطة بإطار سياسي (بما استشرى في الأرض من فساد وفقدان للأمن والعدل).. وهو ثمرة عصر عصيب قضى على أجمل سنوات العمر لدى كثير من مواطنى اليمن!

وعاش باوزير بين عدن وحضرموت يسترزق بأدبه (إلى حد ما) وكان يقنع من الجائزة بالإياب، وفيما هو يعرض لنا صوراً من ضعفه (بل هو ضعفنا) مما لا يقوى عليه الأقوياء.. وكان يعرضها بأدب واحترام، وبما هيأ لها من السخرية البناءة.. وبها كان يقدم لنا: العزاء (الضحك من الداخل)! ويحاول من خلالها إيصال رسالة إلى السلطة. وهذا ما تقوم به فلسفة النكتة السياسية لعصرنا في الوسط الشعبي، من حيث هي تعبير عن قصور في البناء الديمقراطي.

وكان أحد كتاب الغرب (ثورنتون وايلدر) قد امتدح هكذا موهبة: «لقد وهبنا روح الكوميدية لكي نحلل، ونزن، أو نوضح ما في نفوسنا من أشياء تضايقنا، أو أشياء نحاول إعادة تشكيلها».

وفي هذا السياق شكّلت لوحة (الحذاء) قصته البديعة إدانة للواقع (العسكري) المفروض علينا (بالعافية) في حقبة الاشتراكي شأن كل حقبة يفترشها العسكر وتحت مختلف واجهات النيون من الدكتاتورية - الثيوقراطية، فالاشتراكية، وحتى الديمقراطية.

فمثلاً.. هنا، كثير ممن رحبوا بدولة الوحدة، وتوجهاتها الحديثة نحو الديمقراطية عماد المجتمع المدني حيث تحل القوانين محل الإكراه بالقوة، وهو ما يعني مقاومة أو رفض الأنظمة العسكرية أو الأحذية، وخطوة في الاتجاه المدني نحو التغيير الاجتماعي، تغيير العلاقات بين الدولة والمجتمع للخروج من تحت سلطان الخوف الذي مارسته الأنظمة الشمولية، لم يجدوا بعد تغيير عقيدتهم السياسية ما كانوا يتوقعونه، وإنما استمروا يجلسون إلى مائدة هزيلة، واستمروا يتعبون ويجهدون.. ويرتعشون تحت وطأة القهر والخوف من المستقبل غير الآمن، وحيث اختلطت الديمقراطية بالرأسمالية فنجمت عنها طبقة ارستقراطية زالت أمامها (الطبقة الوسطى الدنيا).. وأدى ذلك إلى مزيد من تدني مستوى الفقر في اليمن.

وتحت مسطح خط الفقر هذا، سمعناه (أي باوزير) قبل أربعة أعوام يصرخ، وكان يقف أمام بعض عماراته:

«ارتبطت شُربة رمضان بلحم الضان حتى وقت قريب، لكن بعد ارتفاع سعر اللحم استبدلت الأسر محدودة الدخل السمك بدلاً من اللحم، لكن هذا العام ومع ارتفاع سعر السمك هو الآخر ليتساوى مع سعر اللحم فإن مثل هذه الأسر الفقيرة ستضطر إلى طبخ الشربة على الهواء مباشرة أما الشربة باللحم فستكون من نصيب الموسرين والموظفين الكبار.. فهنيئاً لهؤلاء وأولئك هذه الشُربة المشفرة والقنوات المشفرة ورمضان كريم وكل عام وأنتم بخير». وكان باوزير واحداً من أولئك الفقراء، قبل أن يفاجئنا برحيله، وقد مر رأسه تحت المقصلة بعد أن عاش زمن الاشتراكي معدماً، ولكنه مؤمن بانتمائه العربي والإسلامي، فلم ينجر وراء الأعمال الدعائية التي جاءت تصور انتصار اللحظة الثورية للطبقات المعدمة، ذلك الأدب المشحون بأيديولوجية السلطة!.. ولكنه سعى إلى خلق قصة (وكعزيز نيسين التركي) تعكس حياة الناس في اللحظة التي يعيشون فيها.

ومن خلال هذه النظرة إلى الحياة تجلى صدقه الفني في سخريته التي جعل يعرض لنا العالم المادي أو الواقعي من خلالها مباشرة وبصورة مثيرة تكاد تلمس نهايات أعصاب القارئ.. وفي ارتعاشات الزمن الرديء!

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى