الانسان يزيّن المكان

> علي صالح محمد:

> في تلك الأيام حين كنا نعشق الصباح والصباح يلفنا بحنان نسماته وغرور أشعة شمسه الخالدة كزائر يملك الحق الأبدي في مداعبة الوطن وجباهنا بغير إذن من احد، كنا معها بلا إذن وبلا خوف نمارس مشاعر الحب بلا حدود للانتماء وندمنها بلا حياء.وفي ذلك الزمان حين كان الوطن عنوان الاحتضان بلا حدود، ومرسى للأحلام والآمال ومنبعاً للطمأنينة والأمان من عاتيات الزمان، كنا نملك حرية الالتصاق والحب بلا خوف ولا خجل حد دفع الثمن من الجسد والروح، هكذا كان الوطن في عيوننا وهكذا كنا في مقلة الوطن.

متى؟

حين يصبح الوطن أجمل البلدان وأغلى الأوطان لأنني أهم شيء عنده ويمنحني ما لا أجده عند غيره. يمكن أن تكسب الكثير في بلد آخر، وتجد الاستمتاع في سواه، والحرية أوفر في غيره والطبيعة أجمل، والذي لا أجد في سواه.. (حقوق المواطنة) حسب الأستاذ الشاعر عباس الديلمي.

إذن الوطن يعني حقوق المواطنة.. أي أن الوطن يعني نحن الإنسان وحقوقه في المكان.. لأن وعي الإنسان بالوطن هو امتداد لوعي الإنسان بذاته، والإنسان هو من يزين المكان باعتباره (المنزل الذي يمثل موطن الإنسان ومحله).. ووطن بالمكان أوطن: أقام.. متخذا إياه (محلاً وسكناً يقيم فيه).. والوطن هنا ليس حدوداً جغرافية بل وجود إنساني، لتصبح (المواطنة) عنواناً لتلك العلاقة الوثيقة التي تجمع البشر بالمكان الذي يمنحهم حقوق الانتماء المادية والمعنوية، تلك الحقوق المصنوعة من قبل سكان المكان، أولئك الذين يمنحونه الهوية الثقافية والإنسانية والاجتماعية ليعرف ويمنح الشهرة وصفة الإشهار المبنية على الشخصية المتماثلة كشخصية مركبة من عدة انتماءات تبدأ بالانتماء للذات، مروراً بالانتماء للأسرة، ثم الانتماء للمجتمع، ثم الانتماء للقرية أو المدينة ثم الانتماء الأكبر كأرقى إشكال الانتماء الانساني بالوطن بلا حدود، حيث تصبح جغرافية الإنسان وحقوقه هي الحدود الحقيقية للوطن تزيّنها (الوطنية) كمفهوم جامع لكل مشاعر الحب ومواثيق الود والتفاني المتبادلة بين (الوطن) المكان و(المواطن) الإنسان الذي يمتلك (حقوق المواطنة)، ليصبح الإنسان تلك الجوهرة في عيون الوطن كمتلازمة ضرورية لثنائية الأرض والإنسان بصفته محورا للكون والوجود أُمر بالصبر وعدم الخنوع ومقاومة غزاة الديار.

وحين يصبح الوطن في لحظة شاهدا حزيناً على مصادرة الهوية وطمس الانتماء، وقمعاً لوجود بشر منحوا الوطن هويته ليصبحوا غرباء معاقبين في أرضهم، مذلين مهانين في دارهم تصادر حقوقهم، يصبح الوطن نشيداً يردد:

ونفسك فز بها إن جاك ضيق

واترك الدار تنعي من بناها

فإنك واجد أرضاً بأرض

ونفسك لن تجد أرضا سواها

وحين يصبح الوطن كجغرافيا محوراً وهدفاً لكل الاهتمامات والسياسات المفروضة لتتجاوز مفهوم الإنسان كقيمة عليا في الوطن، يهاجر الوطن الإنسان في رحلة بحث قسرية عن وطن بديل يمنحه حقوقه المفقودة في دياره ليصبح (الخارج مولوداً والداخل موءوداً) يسافر من داخلنا ذلك (الوطن) الذي نحب، لتظل مشاعر الانتماء والحنين الى الوطن الغائب والمفقود ملتصقة وحاضرة في الذاكرة (صوراً) مختزنة أو (دمعة) تسيل بلا إذن عند الحنين إلى الأحبة في الديار.

وحين يصعب الفراق لقوة الانشداد أو قلة الحيلة وتصبح (الوطنية) في خانة الاهانة والإذلال، يصبح الوطن علامة للاغتراب الداخلي، ومأساة لمشاعر الانتماء، ومجالاً للبحث عن (الوطن) الحقيقي الذي يمنحها صفتها الطبيعية وقيمتها الحقيقية.

وحين يهرب الوطن الإنسان منا ولا يبقى سوى الوطن الجغرافيا فينا، تُرى من سيمنح الأرض الحياة؟ ومن سيزيّن المكان؟

ومن سيغني مع محمد وردي:

حدق العيون لك يا وطن

اصبح مقرا وأصبح سكن

أنت الملاذ ساعة المحن

وأنت الشموخ عبر الزمن

الأكيد انه لا مفر إلا إلى الوطن - الإنسان كموضوع للتفكير وكمركز للخطاب لمواجهة واقع الإنسان.. ذلك أن الإنسان مزيّن المكان.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى